أسئلة “لامبيدوزا” الإرترية
ثمة جهة أمنية اتصلت بنا ويطلبون أن تراجعهم. هكذا فجر مدير معهد اللغة التركية مفاجأته في وجهي، وتركني نهباً لمخاوف يعرفها أبناء الشرق الأوسط جيداً.
في بلد تهيمن فيه لغة واحدة، وتشعر أن بين أبنائه واللغات الأجنبية قدراً من العداوة المبهمة كتركيا، لا يلزمنا كثير من سعة الخيال لندرك ردة فعل الضابط حين قلت مبتسماً: في بلدنا تسع لغات، لكنني سأحاول التفاهم معها. قلت هذا وقد شعرت بالانشراح اللذيذ يفعل فعله في مزاجي، فرغم صعوبة المهمة لكنها كانت أسهل، إن لم نقل أجمل، من الافتراضات التي جالت بذهني في الطريق إلى المقر الأمني، محاولاً فهم سبب استدعائي.
لماذا وصلتُ بهذه السرعة قلت لنفسي وأنا أرى لافتة شعبة الأجانب، نظرة الحارس على الباب زادت ريبتي، لكنني تجاهلته وتوجهت إلى الشرطي المسؤول عن الإقامات، فإذا به يأخذني إلى ضابط أعلى منه رتبة. في المكتب نظر الضابط في جوازي ثم قال ببساطة: لدينا هنا سجينة تقول إنها من إرتريا، ونريدك أن تتحدث معها وتترجم لنا ولها الحديث.
ونحن ننزل الأدراج كنت أفكر في حالات التهريب المستمرة كنهر من الآلام لا يكاد ينضب، منبعه في إرتريا، ومصبه في مكان ما على هذه الخريطة؛ ربما بين يدي عصابة، ربما الهلاك بعد فقد الماء في الصحراء، ربما، ويا للمفارقة، غرقاً في مياه بحر ما من البحار التي تقسو هي أيضاً على هذه الأجساد الضعيفة والأرواح الخائفة، كأن قسوة البشر لا تكفي! ومصب المحظوظين في المكان الذي خرجوا أصلاً وهم يحلمون به، هذا النهر الحزين كل دفقة فيه بل كل قطرة حياة وحكاية. ابتسمت وأنا أتذكر رغبتي في دخول هذا النهر.. ولكن الله سلّم.
في الدهليز حاولت أن أرقّع جملاً من لغتي المهترئة على الطرفين التجري والتركية، شغلني هذا حتى أعادني صوت قرقعة المفتاح في قفل الزنزانة إلى الواقع.
في صدر الزنزانة سرير ذو طابقين، بنظرة واحدة عرفت بغيتي، كانت متكورة على نفسها في زاوية السرير العلوي، ويبدو أن الخوف دفعها إلى ذلك عندما دخل الشرطيان التركيان قبلي، تجلٍ من تجليات ذلك الخوف المزمن من أجهزة الأمن في بلادنا، نظرت إليّ بعيون اختلط فيها الخوف بالحذر.. لعلها لم تستطع تحديد موقفها مني.
اقتربتُ من السرير محاولاً افتتاح الحديث معها بجمل ركيكة من التجري، نظرت إلى بدهشة ولم تجب، ثم اقتربتْ من طرف السرير وقد امتلأت عيناها بالدموع؛ أهي دموع الفرح أم أحزان الغربة أم الخوف، أم شيء لا يدريه إلا من جربه وذاق كأسه إلى ثمالتها! لست أدري.
لم تتكلم، حوقلتُ وحوقلتُ، وإذا بمفاجأة جديدة في يوم مليء بالمفاجآت… إنها تعرف العربية، مع سماعي لأولى كلماتها حاولت التركيز واستعمال كل ملكاتي العقلية نظراً وسماعاً وتحليلاً؛ لكي أميز صدقها من كذبها، لماذا خالجتني هذه الرغبة؟ أسأل نفسي الآن أهي الرغبة في مساعدتها…أم الشعور بالقوة النسبية أمام شخص يمر بأضعف حالاته؟ لا أدري.
قالت إن عمرها 25 سنة، وإنها هاربة من معسكر ساوا للتجنيد الإجباري، وإنها أم لطفلين، وإنها ابنة أسمرا، وإنها خائفة، وإنها في النهاية لم تفعل شيئاً ولم ترتكب جرماً.
لمن كان في مثل حالها التهريب بالطبع ليس جرماً، إنه ربما الأمل الوحيد والنافذة التي تستطيع أن تنظر من خلالها إلى الدنيا. ولكن الأمر بالتأكيد ليس كذلك للشرطيين خلفي، واللذين لمحت في عيونهما، وأنا أترجم، نظرة استغراب، ربما لم يفهما كلامي جيداً، وربما لم يفهما لماذا يرمي المرء نفسه في المهالك هرباً من وطنه!
للزمان ألعابه الخفية يتحدانا فيها بمكر، بالنسبة للعاشقين يتمنيان وقوفه لحظة لقاء، لكنه بلؤم يسرع، أما أنا فقد تمنيت أن لو كان هذا اللقاء غير المنتظر متأخراً، ولو سنة، لعلي كنت استطعت أن أحدثهما بشكل أفضل عن بلاد بعيدة، تبيع شبابها أناشيد حماسية وشعارات وأعلاماً ملونة وتسرق منهم أحلامهم ومستقبلهم، بلاد يرجو كل من فيها الخروج منها، وإلا فأقصى ما يتمناه أن يحيا مثل كلب مدلل عند مسؤول من المسؤولين، أي لغة جدية هذه التي تستطيع أن تشرح لهما أن هناك بلاداً، في عالم اليوم، لا دستور فيها ولا برلمان ولا أحزاب ولا صحافة غير رسمية، وخلال 25 عاماً، هي عمرها وعمر جيلين كاملين ممّن ولد بعد “الاستقلال”، لم تجر فيها ولو لمرة واحدة، ولو بصورة شكلية، انتخابات رئاسية!
أأجرؤ أن أقول إن في بلادي جامعة واحدة مغلقة، في حين تبتلع أبواب معسكر ساوا للتدريب العسكري أعماراً كاملة، يدري من يدخل إليه متى تبدأ الخدمة فيه، أما انتهاؤها فهذا أمر آخر للسلطة وحدها حق تحديده بعد سنة.. اثنتين.. ثمانية أو أكثر، على كل حال ما للشباب وللعلم! أوليست السخرة في سبيل “الوطن” خيراً لهم من هراء الجامعات الذي تملأ به رؤوس طلابها! بهذا “المنطق” تدار البلاد التي تفر منها هذه المتكورة على نفسها، لكن كيف أشرح.. كيف
تحدثا معاً وطلب أكبرهما مني أن أخبرها أنهما لا يريدان بها شراً، فالأمر ببساطة أن الجو بارد والملابس التي ترتديها لا تلائم هذه الأجواء، وقد جاؤوها بملابس أثقل. يا لحاجز اللغة! أخبرتها بذلك، لكن خوفها الغريزي من كل ما يمت إلى أجهزة الأمن بصلة كان يسكنها، فنظرت غير مصدقة، وعادت إلى حالة الانكماش السابقة، حاولتُ تسكينها وقلت مبتسماً: هذا كل ما في الأمر.
أخبرت العسكريين المدهوشين أنها تعرف العربية. أعطيناها الملابس وأغلقنا الزنزانة خلفنا، وذهب أحد الشرطيين ليعود بعد قليل مع شرطية من عرب تركيا، فانتهى عملي عند هذا الحد، وستكمل الشرطية ما بدأناه.
عدت بعد حين لزيارة السجينة، فأخبروني أنهم أخذوا إفادتها وأطلقوا سراحها، هاااا إذن ليس الأمر كما في بلادنا؛ سجن لمدة ترتبط بمزاج السجان، في مكان لك أن تنتظر أن ترى فيه كل التحولات التي يمر بها الكائن البشري والدنيا، حتى يستحيل الأول حيواناً مفترساً وفريسة، وتستحيل الثانية غابة أين منها غابة الحيوانات! حمدت الله على إطلاق سراحها قافلاً من حيث أتيت.
أعتقد أنها بعد الخروج من السجن أعادت استئناف رحلتها التي توقفت مؤقتاً في بورصة، وربما تكون قد وُفقت في الوصول إلى الشاطئ الذي أرادت، وربما لا، بل ربما تأخر بها الحال حتى كانت بين موتى لامبيدوزا، لكنها بالتأكيد وُفقت في طرح أسئلتها البسيطة علينا جميعاً: لماذا؟ وإلى متى؟ وما المصير؟ و..أين أنتم؟
المصدر :
سئلة “لامبيدوزا” الإرترية – مدونات الجزيرة
كاتب وباحث
8/12/2016
أ
كاتب حاضر، عرف الإعلام منذ أيام كان طالبًا في الثمانيات ، يرى أن القضايا الضعيفة توجب المناصرة القوية ولهذا يتشبث بالقلم