مقالات وآراء

أ.د. جلال الدين محمد صالح :نهاية اللعبة ومستقبل الكيان الارتري ” 1 / 4″

تؤكد الحلقة أن الحرب والسلم في المنطقة عامة وفي أرتريا خاصة  تقرره جهات خارجية تتحكم في صناعة الأزمات ، تشعلها متى شاءت ، وتطفئها متى شاءت : لتشتعل من جديد وفق استراتجية مدروسة والسلام ليس من مقاصدها.

  إلى نص الحلقة الأولى من مقال البروف جلال الدين التي خص بها – مشكورًا –  ” زينا ”  :

انتهت الجولة الثانية من الحرب الحدودية بين نظام أفورقي بأسمرا، والمجموعة الأكسومية في التجراي بإثيوبيا، ولكن لم تنته اللعبة منذ أن بدأت ليس في بادمي عام 1998م، وإنما في فترة تقرير المصير عام 1952م، ثم واصلت مسيرتها في عهد النضال الوطني مستفيدة من الحرب الأهلية التي فتكت بالثورة الارترية،حتى نجحت في تصفية جبهة تحرير إرتريا من الوجود العسكري، عندما قررت ذلك الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بالتحالف مع الجبهة الشعبية لتحرير تجراي عام 1981م.

وفي عام 1991م تحولت اللعبة من عهد الثورة إلى عهد الدولة باندحار الجيش الاثيوبي المستعمر وانتصار الجيش الارتري الثائر، وضمن فصول وفواصل هذا التحول اندلعت حرب بادمي الحدودية بين إرتريا وإثيوبيا عام 1998م، وتضاعفت مشاكلها إلى أن أسقطت سلطة الأكسوميين التجراي في أديس أبابا عام 2018م، لتدفع بإثيوبيا كلها إلى أتون حرب داخلية طاحنة، توقفت كما تابعناها بتوقيع سلام بريتوريا في نوفمبر 2022م،بجنوب أفريقيا.

وواهمون هم أولئك الذين يظنون أن اللعبة انتهت فعلاً بإبرام هذا الميثاق إلى غير عودة ورجعة،بل هي صفَّارة إنذار من الحَكَمِ، أوقف بها المباراة ربما لخروجها عن خطوط الاستراتيجية المرسومة للمنطقة كلها، على نحو ينسفها نسفاً، بإغراق إثيوبيا نفسها في حرب تفكيكية لا نهاية لها، تذهب بوحدتها المصطنعة، وتحولها إلى دولة فاشلة في القرن الأفريقي، كما هو حال الصومال المنهار.

وهو ما يمنح حركة الشباب الصومالية، ذات الصلة الفكرية بتنظيم القاعدة، فرصة استثمار اللعبة في توسيع نشاطها على أراضي أوجاديين بإثيوبيا، حيث العرقية الصومالية، وينمي حركات أخرى مماثلة في إرتريا والسودان، وهو ما يقلق أمريكا والغرب، بعد فشلهم في أفغانستان، ولا يمكن لهم تحمله في القرن الأفريقي، مع اشتعال الحرب الروسية الأمريكية في أوكرانيا.

ولكي لا يحدث كل هذا لابد من التلويح بالكرت الأصفر أو الأحمر من حَكَمِ المباراة، وإطلاق الصفارات تلو الصفارات لإنذار اللاعبين الأكسوميين في صراع السلطة والثروة، بأنهم إن لم يوقفوا اللعبة سيتعرضون لعقوبات دولية تتضرر منها شعوبهم بالدرجة الأولى، وتقضي على طموحاتهم الشخصية، وتحجر على مدخراتهم البنكية، وربما صنفتهم على قوائم الإرهاب العالمي، وقدمتهم إلى محكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وهذا لأن التكتيكات العسكرية الجارية لهزيمة روسيا أمام الغرب على مستوى الصراع في أوروبا، وأيضًا المساعي الحثيثة في تسوية مشكلة اليمن وفق متطلبات اللعبة الكبرى فيما يُطلق عليه الشرق الأوسط الجديد، ورديفه القرن الأفريقي الجديد لا تسمح بالاستمرار فيها أكثر مما مضى.

وذلك أن هذه الصراعات الجانبية بالنسبة للغرب تتلاشى أهميتها مقارنة بالصراعات الكبرى، ويسهل عليهم التحكم عليها بوسيلة وأخرى، وهي عادة ما تصنعها ابتداءً دوائر صناعة الأزمات في الدول المستفيدة من تحريكها بإنضاج دواعيها، أو بتوظيفها لصالح استراتيجيتها، إذا ما تفجرت من تلقاء نفسها بتوافر شروط تفجرها، كما هو جار الآن في السودان، حيث نرى السفير الأمريكي في الخرطوم جون غودفري يقوم بجولات لا تفتر، يلتقي بنظارة القبائل في الشرق وغير الشرق، ويتابع الأحداث عن قرب.

ومن هنا يظهر أن كل الذي شاهدناه من الحرب في جولتها الثانية، ما هو إلا شوط من أشواط اللعبة، أما اللعبة نفسها بأركانها الكاملة فلم تنته بعد، ولن تنتهي إلا في تلك المحطة واللحظة التي قرر منظموها أن تنتهي عندها، وهي اللحظة والمحطة التي يكون وجود الكيان الارتري فيها تحت المساومة والمساءلة، عقب إغراقه في حالة من الفوضى هي أعقد وأعمق مما هو غارق فيه الآن من الفشل، فإلى أي حد نحن نقترب من هذه اللحظة الحرجة ومحطتها؟.

وسؤالنا عن مسافة البعد والاقتراب من نقطة الفوضى، يستلزم بالضرورة إقرارنا بالسير فعلا على الدرب المؤدي إليها، وأظن ليس من الموضوعية نفي ذلك وإنكاره، ولا من التفكير المنطقي استبعاد مثل هذا المآل كليا عن أذهاننا، عند استشراف المستقبل ودراسة الخيارات المناسبة.

ويتضح لنا جدوى هذا التفكير إذا ما عدنا بذاكرتنا إلى الوراء قليلاً عندما هتفنا -أول ما انهار الجيش الاثيوبي أمامنا عام 1991م –  بشعارات البناء والتعمير، فرحين ومستبشرين ببزوغ فجر جديد على ربوع بلادنا، اعتقاداً منا أن اللعبة انتهت، بيد أنَّنَا فوجئنا بلعبة تالية، كدرت علينا فرحتنا هذه، وبددت أحلامها، وأدخلتنا في نفق مظلم ما زلنا تائهين في ظلماته حتى اللحظة.

وهي بلا منازع حرب بادمي الحدودية، تولد عنها انهيار جزئي داخل النظام الحاكم، أدى بدوره إلى اختفاء قيادات عليا من رجال الصف الأمامي والكوادر الخالفة في غياهب السجون والمعتقلات المجهولة، وإلى تبادل اتهامات الخيانة، وتعطلت كل مشاريع التنمية، لا دولة قائمة بمؤسسات فاعلة، ودستور حاكم، وإنما كيان مستقل رسميا، إلا أنه لا أحد يدري عن وجهته إلى أين هو ماض؟ ولا يحق لأحد السؤال عن ذلك أو الحديث عنه غير هذا الشخص المتفرد بكل قراراته السيادية، حربًا وسلمًا، إسياس أفورقي.

وهذه الحالة الغامضة من البداهة بمكان أن تثير فينا ما دمنا أحياءً غريزة البحث عن خبايا الزوايا، ورغبة التحسس والتجسس عن كل ما مر ويمر بنا حاليًا وما نتوقع مروره مستقبلا من الأحداث، حتى نفهم أبعاد هذا التعتيم المضروب بشمولية تامة على البلاد كلها، وحتى نتبين طريقنا إلى أين نحن سائرون.

فما هو إذن أول سؤال يمكن أن ننطلق منه في تقصينا هذا وبحثنا عن الحقيقة؟ ذلك ما سأتحدث عنه في الحلقة الثانية، فتابعوني.

انتهت اللعبة وبقيت لها أشواط أخرى

الحكم الفرد ضحى بقياداته بهدف استمرار مشروعه

الحلقة تسال عن مسافة الاقتراب من نقطة الفوضى في أرتريا

تقييم المستخدمون: 3.35 ( 1 أصوات)

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى