شعاع النور بدأ ينساب من قمة أدال إلى ربوع إرتريا مع انطلاق شرارة الثورة التي أعلنها حامد إدريس عواتي في الواحد من سبتمبر عام 1961 وكان هذا اليوم بمثابة إعلان حياة وميلاد جديد للشعب الإرتري وتعالت الأصوات تنادي هنا وهناك بالحرية وتدفق الشباب إلى الثورة وعمت بذرة الكفاح و الحرية كل بيت وتحركت روح الكفاح في دم الرجال والنساء ويا لها من ثورة عظيمة… ثورة لشعب لم تكتحل مقلتاه بالنوم ثلاثين عاما مهرت بدماء الشهداء وتوجت بالاستقلال وعم الفرح والحبور كل بيت وتنادى الناس لتعمير الوطن الدامي الذي دمرته الحرب حاملين أحلامهم وأقلامهم لوطن فدوه بدمائهم وأرواحهم ليعيشوا بكرامة وبحرية وسلام ورفاهية واستقرار ولكنه للأسف سرعان ما تبددت تلك الأحلام وحصدوا نتيجة مرة، إذ تمكن شعبنا في العام 1993 من الوصول إلى القمة التي ناضل من أجلها وهي نفسها كانت القمة التي هبط منها إلى هاوية سحيقة لا قرار لها، فالسراق والصوص انحرفوا بمسار الثورة بمساندة بعض صغار النفوس والهمم الذين اشتراهم الديكتاتور لتأييد انحرافه بلقيماتٍ ذليلة، يزهق أرواحهم ويغصب أموالهم، ويفتن بعضهم على بعض وهم يسبحون بحمده ذلة ومهانة واستسلامًا ورغم ذلك لا تكتحل عينه بنومة هانية لأنه يعرف ما يستحقه منهم من جزاء.
هذا الهبوط إلى الهاوية من قمة الحرية قلب الفرحة حزنا وخيمت خيبة الأمل على الناس ولم َيتَبَقَ أمامنا خيار إلا أن نرجع إلى المربع الأول الذي انطلقت منه شرارة ثورتنا الأولى، عدنا الى المربع الأول وليس من بيننا القائد الشهيد عواتي، وضن الزمان بأن تلد الأمهات مثله ليخرخنا من الورطة التي دخلنا فيها باختيارنا.
ما يؤلمني كلما مرت علي ذكرى سبتمبر أننا لم نَعِ الدرس بعد هذه الانتكاسة النكراء، فمازلنا بجهلنا وبقصر نظرنا وضيق أفقنا نحمل جراثيم الفوضى السابقة فنكسر مجاديف بعضنا ونساند السراق واللصوص لإسقاط بعضنا ،نتعارك في الافتتاحية ببسم الله فهي تعني عند البعض دين وهوية وعند البعض الآخر شتيمة وهكذا شغلنا ببعضنا وتركنا رسالتنا ومن تخلف عن رسالته ما عليه إلا أن يخضع ويذل أو يدفن ويمحى من صفحات التأريخ…
كان حرياً بنا أن لا نكرر أخطاء ماضينا فلا نلدغ من حجر واحد مرتين، لكنه مازالت تفتح علينا كل يوم أبواب تيه لا حد لها، وتزيد الفجوة بيننا في خطوط متوازية، خطوط لا تلتقي إلا في الخصام وكل يتمسك برأيه وذهب الناس مذاهب شتى في تحليل أزمتنا فهذا يقول سياسية، وذلك يقول دينة، وآخر يرى أزمة قيادة، لكن الصيغة التى تجمعهم نقرأها في قوله تعالى(مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) – سورةغافر (29)- وما علموا أنها أوردت فرعون وقومه البحر غرقاً، وطوتهم صفحات التأريخ مخلدة لهم شهادة سوء وقبيح الذكرى.
إن ما وصلنا إليه من الانتكاسات المرة لم يكن مجرد صدفة بل نتائج تراكمات أخطائنا من يوم 1سبتمبر1961 الى يومنا هذا عجزنا عن استرداد حقوقنا المسلوبة ولو لا عناية الله لما بقى لنا وجود في إرتريا إلى اليوم، والمستقبل أيضا غامض ولا تلوح فيه أي بشريات وحدة جامعة تجمع الارتريين على أي شكل من أشكال الوحدة سواء كانت وحدة عمل وتنسيق أو إندماج أو تعاون على أدنى المشتركات الوطنية والانسانية، والتاريخ لا يرحم المتفرجين وهو شاهد على دويلات أصبحت أثرًا بعد عين وثقافات محيت من خريطة الأرض.
إن الذي يسلك درب الهاوية ينتظره السقوط العاجل ولهذا كان على العقلاء تغيير المسارات الهالكة إلى غيرها تتجه إلى العمل والتضحيات بعيدا عن التنظيرات فمن زرع حصد وقد يكون هذا الزرغ يغرسه عدد قليل ، ويرعاه وينميه ويتحمل استهزاء فصائل المتفرجين المثبطين حتى إذا ما تحقق النصر وأتت الثمار يانعة بدأت مسيرة أخرى للقلة المنتصرة وهي حماية مكتسباتها بالحذر من كيد الخصوم المنافسين المتسقلين وببسط القانون وإتاحة الحرية والعمل والأمل والعدل لكل المواطنين وعندئذ تشرئب الأعناق إلى المنتصر بإعجاب وإجلال بناء على أنه مخلص الوطن من قبضة الاستبداد القاسي وما أجمعت الأمة على فضل القمر إلا لأنه نافع دائم وعادل دون مقابل . .