الاقتصادي أ.أبو بكر علي عثمان ” * ” لزينا : عملت في وزارة المالية قسم إعداد الميزانية وهذه شهادتي.
إن حالة التحشيد العسكرى المتواصلة لعقدين استنزفت قدرات الدولة المحدودة
من مساوئ النظام أنه لا يعلن عن الميزانية ولا عن مصادرها ولا عن خطط و أولويات وآليات في تنفيذ البرامج.
إن التفسير المنطقي لدواعي تبديل العملة ” نقفة” هو تصفية حسابات بين مراكز القوى في الدولة.
أجرى الحوار: باسم القروي
ضيفنا هذه المرة قليل الظهور في وسائل الإعلام ، ونادر الحضور في وسائل التواصل الاجتماعي ولهذا ربما لن تجده مدمن التواصل مع الأصدقاء ومع ذلك حاضر فاعل في المنتديات والحوارات والمناشط الوطنية الجادة، وقفت له على دارسة اقتصادية كتبها كما علمت أنه سجل حواراَ اقتصادياً مع إذاعة ” أرينا الدولية ” فأحببت أن يكمل لنا مادة نشرناها عن الاقتصاد الأرتري بحثية وحوارية تكملة ملحة لأن الضيف الكريم يمتلك تجربة الداخل مع نظام معادي عمل لديه مدة ثمانية عشر سنة إنها خبرة مقدرة تستحق أن تروي وتجعل الحديث عن الاقتصاد الأرتري أكثر تخصصاً وذلك أن الضيف خريج اقتصاد وعمل في الاقتصاد وله من الدورات التأهيلية ما يجعله خبيرًا في المهنة.
عرضت الأمر عليه فوافق دون تردد ، فطرحت الأسئلة أمامه فأخذ يجيب بهدوء،
الحوار مع الضيف الكريم الأستاذ أبو بكر علي عثمان كان شيقا ، تخلله تواصل طريف وظريف كنت أتستقبل بانشراح فكاهات مسلية آسرة وأستمتع بها كان يسميها مداعباً ” رشوة ” و” تصبيرة ” وهددني بانقطاعها بعد إنهاء المقابلة وكنا نضحك مسرورين .
ثمانية عشر سنة قضاها في الخدمة مع النظام الأرتري متقلباً بين المالية خمس سنوات ( 1992 – 1997م – في قسم ” إعداد الميزانية” والتعليم ثلاث سنوات والبحوث والدراسات لمدة عشر سنوات تقريباً وقال : أبعدت عن المالية لأسباب سياسية بامتياز .
قلت له أنت كنت جزءًا من النظام فهربت لأنك لم تجد حظوة في ” وزارة المالية ” وأنت كنت على تواصل مع الجبهة الشعبية ولاء وعضوية تنظيمية فشفع ذلك التواصل التنظيمي لك – بخلاف غيرك – للحصول على وظيفة مرموقة! فأجاب دون أن أجد منه انفعالاً غاضباً من الأسئلة المتهمة القاسية ومضت المقابلة هادئة عاقلة ولما لاحظت هذا الهدوء ألقيت عليه أسئلة ذات مذاق منفعل فأعرض عنها معتذرًا حفاظًا على نمط أدائه في المقابلة أو ربما لا يريد الخوض في عمق بعض الأسئلة التي تتطلب الإجابة بـــ ” ابيض” أو”أسود ”
وقال لي في خاتمة المقابلة : أنا بطبعي هادئ ولا أميل للصخب وربما كان هذا هو السبب في أن تكون المقابلة هادئة وأعتقد أن هذا مطلوب لمخاطبة العقل وترسيخ الفكرة أكثر من أي عبارات صارخة تستهدف التهييج .
– قلت فى ورقة لك (الاقتصاد الارترى: الواقع واتجاهات التطور الممكنة) تطور الاقتصاد الارترى يرتبط ويتوقف بشكل كلى على فرص نجاح البحث عن حلول سياسية لازمة الحكم عبر اسقاط النظام او اجباره على البحث عن حلول مشتركة. هل معنى ذلك ان لا امل فى تطوير الاقتصاد وتنمية الوطن دون حل سياسى؟ الا توجد دول متطورة اقتصاديا مع وجود سلطة قابضة ومعارضة مطاردة؟
إمعان النظر فى الماثل أمامنا من وقائع وسياسات، وما يرتبط بذلك من نتائج وماسى يعيشها شعبنا فى الداخل والخارج، يعيننا كثيرًا فى تقدير حجم المحنة التى تواجهنا، وكذلك المخاطر التى تحيط بنا وطنًا وشعبًا، مما يتطلب الحذر . ما أود قوله هو أننا نعيش مستويات متعددة من الأزمة، تشكل الأزمة السياسية بؤرتها ومبعثها، مما يتطلب وضع سلم أولوياتنا وفق أهمية عناصر الأزمة المتشابكة. إن الشروط القاسية من قمع وقهر الذى تمارسه السلطة مما يؤدى لإحساس المواطن بعدم الأمان فى حياته وممتلكاته، والتضييق عليه فى كسبه ونشاطه، وفقدان الثقة فى النظام حيث أضحت العلاقة بين المواطن والسلطة علاقة ريب وخوف، لاعلاقة تعاقدية بين الحاكمين والمحكومين وفق نظم وقوانين معلومة بصرف النظر عن شرعية مصدرها هى التى خلقت أوضاعًا طاردة لمواطنين لم يتركوا ديارهم حتى فى ظل أخطر الظروف الأمنية والسياسية فى ظل الأنظمة الاستعمارية. إن سلطة تتسبب فى تهجير مواطنيها ليكونوا عالة على جيرانها وبقية دول العالم، وتخبر مواطنيها صباح مساء عبر أدواتها الإعلامية، إن كل العالم يقف ضدها وبالتالى لا صديق لها، لهى سلطة بائسة تريد إخفاء فشلها فى حماية شعبها، وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، والأنكى والأمر أنها تنكر قصورها وتريد من الآخرين أن يتحملوا وزرها. التطور والنماء الاقتصادى هدفه الإنسان وكذلك هو أداته، وما دام هذا الإنسان غير مستقر فى دياره، لجوءا” وتشردًا أو حشودًا” فى معسكرات الجيش وخنادقه، رغم أننا وعلى مدى عقدين تقريباً لم نسترد أرضًا” مسلوبة، ولا كرامة مهدورة، لا يمكننا أن نتوقع اقتصادًا” متطورًا” . إن ما تصفه بإمكانية تطور اقتصادى فى ظل أنظمة قمعية أو قابضة على حد قولك مرهون بتوافر أبسط مقومات الأمن والاستقرار المجتمعى مع درجة معقولة من رضى جزء مقدر من المجتمع نحو سلطته، ووجود نظم وقوانين وظروف مواتية تشجع وتحفز العمل الفردى والجماعى مع قدر معقول من المشاركة والاستفادة من عائد هذا العمل وكلها شروط وظروف تراجعت وأخشى أن تكون فى طريقها للتلاشى مما يعيق فرص التطور الاقتصادى والاستقرار المجتمعى. إن الإنسان الارترى الذى عرف بالكد والتفانى فى اتقان عمله لم تتوفر له الظروف الملائمة لخدمة نفسه ومجتمعه، حيث استخدم النظام هذه القيم النبيلة لخدمة أجندته وتثبيت دعائم سلطته، دون أن ينعكس ذلك فى تقدم الوطن ورفاهية شعبه، لذلك قصدت القول دون إجبار النظام على تغيير سلوكه وموقفه تجاه الحريات العامة، وطبيعة نظام الحكم ومؤسسات نشاط الدولة وإعادة هيكلتها لإطلاق العنان لابداعات المجتمع وتحرير طاقاته المكبلة بقوانين النظام ونهج حكمه، من الصعب تصور أحداث تنمية شاملة تحقق تتطلعات الشعب الارترى فى الحرية والديمقراطية والعدالة والازدهار .
لكل دولة موارد اقتصادية واعدة تبشر المواطنين بالرفاهية… ما موارد ارتريا الاقتصادية علميا دون الأمانى الحالمات التى يرددها غير المختصين؟
أكدت الخبرة الإنسانية أن الموارد الحقيقية لأي مجتمع أو دولة هى قواه البشرية ومستوى تطور هذه القوى عبر إحداث تراكم نوعى فى خبراتها ومعارفها فى مناحى الحياة كافة وهى الشروط الحاسمة لتحديد الخيارات، وترتيب الأولويات، وفاعلية توظيف المتاح من معادن وأراضى زراعية وكذلك من ميزات نسبية فى مختلف المجالات بما فيها من موقع وغيره. والإنسان الإرترى لا تنقصه الرغبة فى تحسين أوضاعه المعيشية، وتطوير مهاراته، ورفع كفاءة الاقتصاد الارترى، الا إن الظروف التى تعرض لها شعبنا أبان مرحلة التحرير وبعد إعلان الدولة الارترية أيضًا أعاقت استقراره، وفرص اكتشاف وتطوير موارده وثرواته لخدمة احتياجات الإنسان الارترى ورفاهيته. وإذا كان من الصعوبة بمكان تقديم أرقام وإحصاءات لما تمتلكه ارتريا من موارد متجددة وناضبة، وميزات وفرص تخدم اقتصادها، إلا أن المؤكد أن ما لديها من أراضى زراعية، وثروة حيوانية وسمكية وخصائص وميزات سياحية، وما يختزنه باطن أرضها من معادن وثروات ، تكفى حاجة الإنسان الإرترى مع الحفاظ على نصيب الأجيال القادمة شريطة تحقيق الاستقرار المجتمعى وتحرير قدرات الإنسان الإرتريى الفكرية والإبداعية ، واحترام خياراته وحقوقه الأساسية كمواطن من واجب الدولة احترام إنسانيته وحقوقه الفردية والجماعية.
الشعب الارترى سواده فى دور الهجرة ومن فى الداخل توحى المؤشرات أنه مقيم فى قيود ولو فتحت له الحدود للهجرة لهاجر كثيرون.. الأمر الذى يعزز من تفسير أن هناك نفرة بين المواطن والسلطان… هل من دلالات اقتصادية لهذه النفرة؟
المعطيات المتوفرة من مختلف المصادر المهتمة تشير إلى مستويات مخيفة فى تدفق المواطنين الإرترين عبر الحدود لدول الجوار وخاصة تجاه السودان وإثيوبيا، دون استبعاد تغيير هذه المعدلات نتيجة ظروف طارئة من فترة لأخرى لأسباب مختلفة، ولكن من المؤكد أنه ليس من بينها الأسباب الدافعة للجوء والهروب، إذ ظلت هذه كما هى بل تزداد ضراوتها بعد كل حين. إن تقييد حركة المواطن والحد من حريته، وفرض أعباء باهظة على نشاطه فى شكل رسوم وضرائب تتصاعد معدلاتها وفق احتياجات السلطة لموارد إضافية لتمويل أنشطتها الأمنية والإدارية على المستويين المحلى والمركزى من جهة وما يرافق ذلك من تفشى المحسوبية والفساد الذي أضحى ظاهرة مقلقة، كلها ساهمت فى إفقار المواطن وعدم قدرته فى الوفاء بالاحتياجات الأساسية لنفسه ولأسرته، مما يضعه تحت طائلة الإحساس بالعجز رغم ما يبذله من جهد للبحث عن لقمة العيش الكريم له ولمن يعولهم. هذا الإحساس بالقهر يعمق الهوة بين المواطن والسلطة القائمة. مثل هذه الظروف القاهرة تخلق مناخاً متوترًا يؤثر فى استقرار المجتمع وتطوره، خاصة فى ظل احتكار مؤسسات الحزب وشركاته التجارية لأهم قطاعات الاقتصاد الوطنى مما جعل المواطن تحت رحمة هذه المؤسسات ذات النزعة الاحتكارية بهدف تعزيز قبضة السلطة على كل مصادر القوة والقمع حتى تضمن انفرادها وبقاءها فى الحكم. كما لعبت هذه السياسات دوراً فى إضعاف مؤسسات القطاع الخاص التى أصبحت عاجزة تماماً للاستمرار فى أنشطتها حتى على مستوى تجارة التجزئة، مما أحال المتبقى منها إلى قنوات توزيع لما تجود به عليها مؤسسات الحزب. إن خطورة هذه الشركات العاملة تحت راية الحزب أو ماتبقى منه حولت مؤسسات الدولة لساحة نهب مفتوحة دون حسيب أو رقيب حيث لا تخضع لقانون الشركات ولا قوانين الجهاز المصرفى كما لاتخضع مداخيلها للمراقبة والمحاسبة من جهات رقابية معروفة.
الحرب لها كلفة باهظة اقتصادياً بلا شك والنظام يعيش فى وهم هذه الحرب بين جيرانه عامة وإثيوبيا خاصة .. هل من مبرر حقيقى فى رأيك؟ وما الأثر الاقتصادي على حالة الاستنفار الدائم التى يعيشها النظام خلال 26 عامًا؟
بالتأكيد كلفة الحرب باهظة ومكلفة بشريًا ومادياً، كما لها تبعات نفسية واستحقاقات سياسية خاصة فى مجتمعات صغيرة انهكتها حروب سابقة كحال الشعب الارترى الذى تحمل عبء ثلاثين عاماً من حرب التحرير الشعبية رغم محدودية قدراته البشرية وموارده الاقتصادية. لذلك من الحكمة بمكان البحث عن حلول سياسية لمعالجة التوترات والخلافات بين الأنظمة السياسية دون التفريط فى مصالح شعوبها وسيادة الأوطان. وفى ظل غياب تقييم حقيقى لدوافع وأسباب ما سمى بالحرب الحدوية بين ارتريا واثيوبيا (1998-2000م) يصعب تحديد مدى مشروعية مخاوف النظام الارترى فى التهويل من احتمالات شن عدوان إثيوبى يستهدف السيادة الارترية التى كانت إثيوبيا أول من اعترف بها عشية الاستفتاء الإرترى فى عام 1993م. كما أن عجز النظام الإرترى فى استثمار الانتصار القانونى بأحقية أرتريا لبادمى وهو الأمر الطبيعى والقانونى تاريخياً، وعدم قدرته على تشكيل جبهة تضامن عالمى للضغط على إثيوبيا للوفاء بالتزاماتها وتنفيذ قرار المحكمة، أتاح للحكومة الإثيوبية هامشاً واسعًا للمناورة وتحويل الأنظار نحو سلوكيات النظام وبؤس سياساته الداخلية والخارجية. كما أن النظام ونتيجة إحساسه بالعجز السياسي والعسكري لاستعادة الأراضى اللإرترية التي مازالت تحت السيطرة الإثيوبية عمل على استثمار حالة ألا حرب وألا سلم للهروب من كل التزاماته وتحمل تبعات سياساته وأخطائه، والتغطية على تآكل مشروعيته، وفساد حكمه ودمويته. لذلك نشط فى عسكرة المجتمع كمنظومة سياسية وإيديولوجية متكاملة بهدف الهيمنة وتعميم ثقافة الرعب والاستبداد لإطالة أمد حكمه.
مأا فيما يتعلق بالشق الثانى من السؤال فيمكن الإشارة إلى عاملين يكملان صورة المشهد. فمن جهة توظيف الموارد وترتيب أولويات الإنفاق، يمكن القول إن حالة التحشيد العسكرى المتواصلة لعقدين استنزف قدرات الدولة المحدودة حيث تم تسخير كل الموارد للجوانب الأمنية والعسكرية كما تشير لذلك مصادر عديدة رغم مادأبت عليه الحكومة من عدم نشر الميزانية السنوية للدولة منذ تاسيسها وحتى اليوم كما جرت العادة فى جميع أنحاء العالم مهما كانت طبيعة السلطة عسكرية أو مدنية، وهذا قمة الاحتقار والاستخفاف بالرأى العام المحلى. أما من زاوية دعم عجلة الانتاج وتنويع وتطوير قاعدة الاقتصاد وتحرير هياكله الانتاجية والخدمية المتكلسة فقد الحقت به حالة التعبئة والتحشيد المتواصلة أضراراً بالغة جراء حرمانه من القوى الأساسية المنوط بها إحداث التحولات الاقتصادية والاجتماعية المنشودة فى كل القطاعات الرئيسية الانتاجية منها والخدمية على حد سواء. حيث تراجع نصيب الزراعة والصناعة من إجمالى الناتج المحلى إلى مستويات متدنية, أما قطاعى السياحة والثروة السمكية فقد أصابهما شللاً كاملاً. لذلك لجأت الحكومة لتحويل فشل سياساتها الاقتصادية والمالية على المواطن المغلوب على أمره من خلال رفع سقوف الضرائب ومختلف أنواع الرسوم والجبايات التى يتحمل أعباءها المواطن حتى تضمن الحكومة موارد إضافية لتغطية نفقاتها المتصاعدة، الأمر الذي ساهم فى إفقار المواطن وتوسيع دائرة بؤسه.
ستة وعشرون عامًا مضى على الاستقلال والنظام يعرض فى مناسبات عبر إعلامه منجزات تنموية مثل افتتاح بئر تعمل بالطاقة الشمسية او بضع كيلو مترات من تشيد شارع أو بناء مدرسة … هل لاحظت من خلال متابعتك تنمية حقيقية تناسب فترة الربع قرن؟
هدف التنمية الأساسي هو الإنسان وبالتالى لا يستقيم الحديث عن التنمية والإنسان الارترى يكابد أقسى التحديات للبقاء فى وطنه، أو يواجه أقسى صنوف المخاطر والمعاناة للبحث عن مكان آمن يعيش فيه بقية عمره. إن كرامة الإنسان الارتري المهدرة فى أقبية النظام وسجونه، والمواطن البسيط الذى تسحقه ظروف البؤس والفقر فى داخل الوطن ومعسكرات اللجوء فى دول الجوار، كلها شواهد لايمكن إنكارها، أو القفز عليها، للحديث عن أوهام تنموية لاوجود ملموس لاثرها فى حياة المواطن الذى يكابد أقسى ظروف الحياة للحصول على أبسط احتياجاته الأساسية من الخبز والكهرباء ومياه الشرب النقية فى المدن الكبيرة ناهيك عن الريف الذى تنعدم فيه أبسط مقومات الحياة، حيث تحالفت قسوة الطبيعة فى ظل التدهور البيئى المريع مع سياسات الإهمال المستمرة من السلطة لتحيل حياة المواطنين فيها الى جحيم لايطاق.
يمنع النظام من استيراد مواد البناء ويحظر على المواطنين تشيد منازلهم أو ترميمها وفى مدن كثيرة مثل مصوع توجد بيوت على شكل هياكل متصدعة من أثر حرب التحرير وتقادم الزمن لاتزال على حالها البائس… ما الأسباب فى رأيك؟
فى الواقع كثير من سياسات النظام وتوجهاته يصعب استيعابها وشرحها لأنها لا يتم التأسيس لها وفق موجهات وسياسات معلنة كبرنامج عمل تطرحه الحكومة للرأى العام المحلى وفق خطط قصيرة ومتوسطة أو ربما طويلة المدى أيضاً. لذلك نجدها تتخذ جملة من التدابير والإجراءات الإدارية دون أدنى اعتبار للواقع المعيشى للمجتمع وأولويات احتياجاته فى الإسكان أو التعليم أو غيرها من الخدمات الأساسية المطلوبة. وهذه حقيقة عادة درجت عليها الحكومة منذ إعلان الدولة الإرترية حيث لايعلن النظام خطط سنوية أو خمسية يحدد من خلالها أولويات برامجه، وآليات تنفيذها، وكذلك مصادر تمويلها، ربما ليعفى نفسه من المساءلة فى حالة عدم الوفاء بالتزاماته،وهو الأمر الغالب، وتقييم كفاءة أدائه فى توظيف موارد المجتمع ومقدراته. حيث استعاض عن ذلك باجتماعات مطولة يعقدها الجهاز التنفيذى نهاية كل عام ليقوم حسب ادعاء وسائل إعلام الحكومة بعملية التخطيط والتقييم والتقوييم لأنشطته وبرامجه لا يتجاوز نصيب الرأى العام المحلى منها سوى مشاهدة صور جلسات مسجلة يتم عرضها على شاشة التلفاز لبضع ثوانى فى أفضل الأحوال. إن مايقوم به النظام لايعدوا أن يكون له هدف أكثر من الحاق الضرر بأمن المواطن وضرب استقراره حتى لا يلتفت لجرائم النظام وانتهاكاته الواسعة لحقوقه وسوء استخدام موارده وطاقاته. إلا أن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هى لم يعد المواطن تنطلى عليه خدع النظام وجرائمه وانغماس رموزه فى الفساد والمحسوبية وسوء استخدام المال العام.
يقال إن المسلمين الارترين سواء فى دول المهجر أو داخل الوطن هم أكثر الفئات فقرًا وجهلاً ما الحقيقة؟ وهل توجد وصفات اقتصادية لغناهم؟
المسلمون جزء من النسيج الاجتماعى الارترى وبالتالى من الأفضل الحديث عن المواطن الارترى إن كان مسلماً أومسيحا أو غير ذلك، لأن ما يعنينى هو أنه إنسان فى المقام الأول بصرف النظر عن دينه، أو عرقه، أو انتمائه السياسى أو الفكرى أو غير ذلك من العناصر، ذلك إن اهتمامنا بالمواطن لاينبغى تجزأته مادمنا نتحدث فى شأن الوطن والمواطن. وبالعودة لسؤالك، فان حالة الفقر تقهر المواطن الارترى بسبب سياسات الحكومة وليس بسبب معتقده أو انتمائه، أما من راكموا الثروات وحدثت نقلة نوعية فى أوضاعهم إنما حققوا ذلك بسبب ولوغهم فى الفساد وسوء استخدام نفوذهم وسلطاتهم، وعدم رغبة أو قدرة السلطة لمعاقبتهم ومنعهم من التعدى على المال العام. وايًا كان سبب ذلك العجز فإنها ممارسات غير قانونية تستوجب المساءلة، ولا يجب التغاضى عنها فى أى وقت من الأوقات. وبالتالى إن تحسين الأوضاع المعيشية للمواطن وتطوير قدراته ومهاراته يجب أن تكون حجر الزاوية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية لاى سلطة وطنية. ولايمكن أن يتحقق ذلك الا بتحرير الإنسان الارترى من الخوف والرعب الذى تمارسه السلطة، وتحرير ملكاته الابداعية للعمل والابتكار. أما بخصوص الارترين فى دول المهجر ، فمن الصعب التعميم فى ظروف عملهم والتحديات التى تواجههم إذ يمكن القول إنها تتباين من دولة لأخرى.أما بخصوص تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين فذلك يرتبط بشكل أساسى بتطوير القاعدة الانتاجية والقدرة التنافسية للاقتصاد الارترى ، وهذا بدوره مرتبط بجملة من الظروف والعوامل التى تسببت سياسات النظام فى تغييبها.
انت واحد من المثقفين الاقتصادين القادمين فهل أنت متفائل بمستقبل أفضل لأوضاع المسلمين فى ارتريا اقتصادياً ؟ ولم؟
بالتأكيد ان مستقبل الشعب الارترى بكل معتقدات مكوناته يتحدد بمدى تماسكه بوحدته، وتجاوز محنته القاسية والوقوف بصلابة ضد كل المشاريع الرامية لتمزيقه وتشتيت جهوده الهادفة للخلاص من حكم القهر والاستبداد. إن المواطن الارتري إن كان مسلمًا ومسيحيًا لا خيار له إلا العمل المشترك لهزيمة الدكتاتورية وإقامة نظام ديمقراطى يقوم على المشاركة لبناء دولة القانون والعدالة، دولة لا يحس فيها المواطن بالتهميش والإقصاء، دولة تحتضن هذا التنوع والثراء فى الشخصية الارترية ولا نحتاج من يبتدع لنا شخصية أرترية تخالف ما هو موروث عبر التاريخ، أو من ينكر علينا هوييتنا الارترية لتسويق مشاريع سياسية مشبوهة تقوم على الأساطير والأوهام اختلقها من يقفون وراءها. تحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطن الارترى بصرف النظر عن عقيدته الدينية أو خلفيته الاجتماعية يعتمد أساسًا على الجهد الجماعى المبذول لتطوير الاقتصاد الارترى والارتقاء بقدراته الانتاجية والخدمية لتلبية احتياجات المواطنين، مع ضرورة وضع السياسات الملائمة لتحقيق العدالة فى توزيع الثروة وتضييق الفجوة إنن كان بين الريف والحضر ، أو مختلف الأقاليم الإدارية وكذلك الفئات الاجتماعية التى تضررت أكثر من غيرها إن كان بسبب حرب التحرير الشعبية الطويلة أو الظروف الطبيعة والتدهور البيئى الهائل الذى كانت له آثار وخيمة خاصة على النشاطين الزراعى والرعوى. كما كان للسياسات الاقتصادية التى اتبعتها الأنظمة الاستعمارية المتعاقبة أثراً كبيرًا فى اختلال وعدم تكافؤ فى الخدمات الصحية والتعليمية التى ساهمت فى إحداث فجوات تنموية بين مختلف الأقاليم والقوى الاجتماعية. ولم تهتم السلطة القائمة لمواجهة هذا الخلل خاصة فى مجال التعليم حيث ظلت الفوارق تزداد بين مختلف الفئات الاجتماعية بسبب سياسات النظام التعليمية التى لم تجد القبول والرضى من قطاعات واسعة من المجتمع.
درست فى الغربة ثم رجعت الى ارتريا بعد التحرير واحتضنتك وظيفة مالية مرموقة .. هل كنت على اتصال مع الجبهة الشعبية تنظيمياً؟ فعدت فرحاً تحت ظل الفاتحين الذين يعتقد سواد الشعب انهم ظلمة عنصريون طائفيون؟
الأمر الطبيعى الذى لا خلاف عليه هو أن كل إنسان أرترى مهما كان انتماؤه السياسى أو توجهه الفكرى أو عقيدته هو العودة لوطنه متى ما أراد ذلك بعد إزالة ما كان يحول دون هذه العودة من قبل وهو الاحتلال الاثيوبى. والخصومة مع السلطة ومعارضتها لا تعنى بالضرورة انتفاء حق المواطن من العيش فى وطنه وهو ما كان يجب أن يكون عليه حالنا، لأن ذلك من الحقوق الأساسية للمواطن لا يجوز لأى سلطة مصادرته والتعدى عليه، مهما كانت الظروف والمبررات لذلك. ضمن هذا الفهم لحقوقى كمواطن عدت لوطنى كغيرى من المواطنين بمعية رفاقى. وما كنت أشغله من وظيفة عامة لا يمكن وصفها بأي حال من الأحوال بالمرموقة، إذ هى من المتاح لأى مواطن يتوفر فيه الحد الأدنى من التدريب والتأهيل لشغل مثل هذه الوظيفة، وبالتالى لم تكن هبة من أحد على. أما قضية الاتصال التنظيمى بالجبهة الشعبية قبل التحرير فلا يستحق منى الرد، لأنه لوكان لى أى مستوى من مستويات التوافق مع خطها السياسى ماكان هناك ما يمنع التزامي بها كتنظيم وطنى ارترى أنجز الفصل الأخير من ملحمة التحرير بصرف النظر عما آلت إليه الأمور فيما بعد.
أنت متخصص فى الاقتصاد فليس غريباً أن تعمل فى وزارة المالية توضع أمامك ميزانية الدولة لتعيد توزيعها بموازنات بمهنية… هل فعلا عملت فى ظرف مريح تخدم فيه المهنة بإخلاص وجودة بضع سنين؟ وهل يدير النظام مال الدولة بمهنية وفق ضوابط إدارية واقتصادية تعرف الوارد وبنود الصرف بعيدًا عن الفساد؟
عملت فى وزارة المالية فى الفترة من 1992-1997م، وهذه هى الفترة التى طغى عليها الحماس وروح التحدى لمواجهة تحديات بناء الدولة، وفترة الاستقرار النسبى قبل تأزم العلاقات الارترية الاثيوبية وانفجار الأوضاع العسكرية على الحدود بين البلدين فيما بعد. أقول هذا دون التقليل من مخاطر سلوك النظام فى علاقاته مع بقية جيرانه, أو تورطه فى مناطق أخرى ملتهبة حينها فى أجزاء من القارة الأفريقية، بالإضافة إلى حالة التململ وعدم الرضى على مستوى مؤسسات التنظيم القيادية منذ مؤتمر التنظيم فى عام 1994م، وإن ظلت محصورة فى أطر ضيقة. فى هذه الفترة كانت الأجواء إيجابية إلى حد ما حيث الجميع منخرط فى مهام عمله، يبذل قصارى جهده لتجويد أدائه والتفانى فى خدمة وطنه. أما فيما يتعلق بكيفية إدارة السلطة للشأن الاقتصادى، فإن أهم ما يميز سلوك السلطة فى إدارتها ليس فقط الاقتصاد وإنما كل شؤؤن المجتمع ، هو غياب الشفافية، وهذه حقيقة يعلمها الجميع. وفى ظل هكذا أجواء من الصعب الحكم على كيفية إدارة موارد الدولة، إلا أن واقع الحال وبؤسه يغنى عن الدخول فى التفاصيل.
كم سنة عملت فى وزارة المالية ؟ وقد وجدت الغرابة ان تخرج منها لتعمل معلما ثم تغادر التعليم لتعمل باحثا…ما الأسباب؟
عملت فى الوزارة لمدة خمسة أعوام بحكم تخصصى فى دراسة الاقتصاد، أما خروجى منها فهذه قضية أخرى لم يكن لى شأن بها، بل كنت ضحية سوء استخدام السلطة وتعسفها ضد من لم تنسجم قناعاته مع توجهات السلطة التى لا تحترم حق المواطن فى الوظيفة العامة بصرف النظر عن توجهاته الفكرية أو خطه السياسى مادام يؤدى وظيفته وفق ما هو مطلوب. إلا أن ما وجدته من دعم وتشجيع من كثر لم أكن على سابق معرفة بالكثير منهم ساعدنى على تجاوز هذه المحنة القاسية التى تعرضت لها. لذلك لم يكن توجهى للعمل فى مجال التعليم خيارًا سعيت له بنفسى، رغم احترامى وتقديسى لمهنة المعلم ورسالته، بقدر ماكان تشبثا بفرصة الحصول على وظيفة أعول منها نفسى وأسرتى، وتبقى ارتباطي بأرضي ووطنى، لم يترك لى صاحب السلطة خيارًا غيرها. أما العمل فى مجال البحوث والدراسات التطبيقية فكانت فرصة أتيحت لى بدعم وتعاون بعض الاخوة الذين أكن لهم عميق الشكر والامتنان، ولم اتردد فى اغتنامها لما كنت أجده ميلاً واضحاً فى نفسى تجاه هذا المجال، وهو بالطبع ليس ببعيد عن مجال تخصصى واهتماماتى.
الفترة التى عملت فيها فى وزارة المالية أضافت لك معرفة بإدارة البلاد اقتصادًا؟ ما الواقع العملى الذى تساس به أموال الدولة هل من تفاصيل تروى الواقع كما كنت تعايشه؟
من يسئ استعمال سلطته سياسياً لايمكن أن تكون إدارته للاقتصاد وشؤؤن المال موفقة إذ أن هذه علوم لها إدواتها وقواعد عملها التى تحتاج لبيئة مؤسسية ملائمة ، وقوانين مشجعة للابتكار والاستثمار مع ضمان فرص العمل المتكافئة للجميع، والالتزام بقواعد الشفافية والمحاسبة على أسس واضحة يعلمها الجميع. فى الواقع إن خبرة شعبنا منذ التحرير وحتى اليوم تكشف جسامة الأخطاء التى ارتكبتها السلطة فى حق شعبنا مما كان له الأثر المباشر فى تعطيل عملية التنمية، واتساع دائرة الفقر، ولم تكن هذه الا نتائج طبيعية للسياسات الخاطئة للسلطة وعدم اهتمامها بحياة المواطن واحتياجاته. حيث تم احتكار النشاط الاقتصادى من قبل شركات الحزب التى صادرت صلاحيات ومهام الوزارات وتعمل فى ظروف من السرية الفائقة ولا يتعدى من يخطط ويدير نشاطاتها المتعددة سوى عدد محدود من الأفراد لا يخضعون لأى شكل من أشكال المساءلة المؤسسية، مما فاقم من سوء إدارة هذه الشركات وانتشار الفساد والمحسوبية بين من يقومون على أمرها. وهو أمر طبيعى فى ظل غياب أو تغييب مؤسسات الحزب التنظيمية التى لم يعد لها وجود فعلى منذ عقدين تقريبا. هذه الأوضاع شجعت دخول مراكز القوى فى المؤسسة العسكرية حلبة المنافسة من خلال الانخراط فى النشاط التجارى وبعض أوجه النشاط الانتاجى المحدود، مما أساء لهيبة المؤسسة العسكرية التى ولغ قادتها فى فساد منظم وتحولوا لمراكز دعم وحماية لبعض الانشطة المشبوهة.
يتهم النظام الارترى الهاربين عنه بالرغبة فى تحسين أوضاعهم المعيشية!! متى هاجرت ؟ وماالأسباب؟ وكيف؟ ولماذا قصدت استراليا دون غيرها؟
الظروف الطاردة التى تجبر الارترين لمغادرة وطنهم وأهلهم وذويهم لم تعد خافية يستطيع النظام أن يتلاعب بها لتضليل الرأى العام المحلى والعالمى وحصرها فى تدهور الأحوال المعيشية والاقتصادية، رغم أن هذا واقع أفرزته بؤس سياساتهم وسوء إدارتهم للبلاد، وهذا اعتراف صريح بفشلهم عليهم أن يتحملوا نتائجه، لا أن يبحثوا له عن مبررات وهمية من شاكلة حرب الويانى وأن جميع دول العالم ضد الشعب الارترى. أما لماذا قصدت استراليا تحديدًا، فهى الأقدار المكتوبة التى لم أخطط لها إذ كان هذا قدرى ونصيبى ضمن برامج إعادة التوطين التى لا يختار اللاجئ دولة القبول فيها، وعلى العموم مسرور لوجودى فى بلد رائع كاستراليا وشعبها. أما عن فترة خروجى من ارتريا فكان ذلك فى عام 2010م.
الهجرة إلى الدول خارج أرتريا هل لها من إيجابيات اقتصادية على أصحابها وهل من المتوقع أن يكون لها مردود تنموى على الوطن هناك مستقبلاً ؟
لا أعتقد أن هناك من يود مفارقة أهله وذويه إلا فى حالات وفترات محددة إن كان من أجل العلم أو العمل، لذلك هذا خيار تفرضه ظروف قاهرة كالبحث عن الأمن والاستقرار. وبما أن هذا أصبح الآن أمرًا” معاشا”, وتجربة إنسانية مرت بها الكثير من المجتمعات، أضحت مادة للبحوث والدراسات، كما أصبحت هذه الشريحة تهتم بها أنظمة دول المنشأ للاستفادة من إمكاناتها العلمية والمالية كمورد مهم لضخ العملة الصعبة فى شرايين اقتصادات هذه الدول. ومع ضرورة الحذر من التعميم فى مثل هذه القضايا، إلا إن عائدات تحويلات المهاجرين وأثرها فى اقتصادات دول المنشأ حقيقة لا يمكن تجاوزها، وإن كانت تعتمد بشكل أساسى على جاذبية السياسات والتسهيلات التى تتبعها هذه الدول لجذب مدخرات مواطنيها فى المهجر، وهذا خلاف تحويلات الأفراد لأسرهم وذويهم كمساعدات أسرية لا تتوقف مهما كانت الظروف مع إمكانية انخفاضها من وقت لآخر. وكانت هذه التحويلات أهم وأكبر مصدر للعملة الصعبة للاقتصاد الارترى بعد التحرير حيث تجاوزت مئات الملايين من الدولارات فى فترات متفاوتة. الا أنها انخفضت بشكل حاد فى السنوات الأخيرة بسبب العقبات التى تضعها سياسات الحكومة فى وجه هذه التدفقات. أما على مستوى الأفراد، فلا يمكن إنكار الفرص المتاحة للتحصيل العلمى وفرص العمل المتاحة لمن يمتلك التأهيل والتدريب العالى فى مجال تخصصه, الا أن لها ثمنا” باهظا فى كثير من المجالات. أما فيما يتعلق بمردودها مستقبلا على الخطط التنموية للوطن، فاعتقد أن الارتريين فى المهجر يدركون حجم مسؤلياتهم تجاه وطنهم واذا وجدوا البيئة والسياسات الجاذبة سيكون لهم دور كبير فى تغطية العجز الذى تواجهه الدولة من العملة الصعبة نتيجة تدنى الصادرات الارترية.
ذكرت لى أنك مقل فى الحضور عبر النت فى حين أن كثيرًا من الشباب الارترى مشغول بالشبكة إلى درجة السهر الدائم والتواصل المكثف لمتابعة تعليقات واعجابات الأصدقاء دون موضوع حقيقى… هل تجد أثراً اقتصادياً على مثل هذا السلوك الشبابى المصروف؟ وبم تنصح الشباب للتعامل الاقتصادى المثمر مع التقنية الجذابة الملهاة؟
هذه واحدة من مميزات العصر وتحدياته علينا التعامل مع ماتتيحه لنا من فرص وامكانات هائلة فى إنجاز أعمالنا، وتوسيع معارفنا وتعميق فهمنا واستفادتنا من الخبرة البشرية فى جميع المجالات. أعتقد أن النقطة الجوهرية فى هذا الإطار تتعلق بمدى صواب رشدنا وصحة خياراتنا ، وكيفية الاستفادة من الخيارات الواسعة أمامنا لخدمة أهدافنا بأقل كلفة ممكنة. وبالتالى إن من لا هدف له ستقوده خيارات الآخرين إلى حيث يشاءون، ولا أعتقد أن هناك عاقلاً يخرج من بيته ولا يعرف وجهته ليتقفى أثر عابر سبيل آخر يقوده حيث يشاء، ولا يفرق أن كان هذا الآخر سائقاً سيارته، أو راكبا دابته، أو سيراً على الأقدام. وعليه يمكن تلخيص الأمر بمدى أهليتنا لاتخاذ القرار الصائب فيما يتعلق بالخيارات المتاحة، وبالتأكيد العلوم الإنسانية تطرح العديد من الاليات والوسائل التى يمكن من خلالها ترشيد قراراتنا لتكون أكثر عقلانية، وعائدها أكثر فائدة لنا ولمجتمعنا من خلال العمل على تقليل المهدر من وقتنا وجهدنا
ما السياسات الخاطئة فى رأيك التى تكبل الاقتصاد الارترى عن التطور حاليا؟
يطول الحديث فى هذا الجانب وقد حاولت – فى الورقة التى أشرت إليها فى سؤالك الأول- رصد جملة من المعيقات والتحديات التى تواجه الاقتصاد الارترى يصعب على تلخيصها فى هذا الحيز الضيق، الا أنها تدور فى معظمها حول البيئة السياسية والنظم الادارية والأطر المؤسسية، وتخلف البنية التحتية وجمود الهياكل الانتاجية، وهشاشة الأمن والاستقرار الإقليمي، وتدهور بيئي مخيف إن كان بسبب الإنسان أو ظروف طبيعية قاهرة، احتكار شركات الحزب ومؤسساته لمفاتيح الاقتصاد فى كافة المجالات الانتاجية والخدمية وتدمير القطاع الحكومى وكذلك القطاع الخاص، اشتشراء الفساد وسوء استخدام السلطة، واتساع دائرة الفقر وغياب العدالة فى توزيع الثروة واحتكار السلطة وغيرها من القضايا والمشاكل التى تعيق تطور الاقتصاد الارترى. إن بيئة لا تتوافر فيها الشفافية وظروف عمل ملائمة، وقوانين مشجعة، قادرة على تحرير طاقات الاقتصاد وجذب الاستثمارات المحلية والاجنبية التى تشهد تنافسا حادا، لايمكن ان نتوقع لها ازدهارا وتطورا.
ما العوامل الايجابية الواعدة التى تجعل ارتريا واثيوبيا فى تكامل اقتصادى متطور يعود بالرخاء على الشعبين الارترى والاثيوبى؟
علينا أن نعى أن فرص التعاون والتكامل الاقتصادى بين أرتريا وجيرانها لا تنحصر فى إثيوبيا، رغم العلاقات السياسية والاقتصادية بينهما فى الماضى، ولا يمكن إنكار ذلك أيضًا فى المستقبل إن كان على المستوى الاقتصادى أو على مستوى تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمى وسياسة حسن الجوار. الرؤية الكلية لاستقرار المنطقة وازدهارها يتطلب قدرًا معقولاً من التعاون بين شعوبها، ليس لتبادل الحماية بين الأنظمة الاستبدادية فى المنطقة كما يخطط لذلك حكامها، وإنما لخدمة شعوب هذه المنطقة التى تعانى أبشع أنواع القهر والقمع وتدنى مستويات المعيشة. وربما كان من أكبر التحديات التى تواجه المنطقة فى الوقت الحاضر توتر العلاقات بين حكام المنطقة وشعوبهم مما يشكك فى شرعية حكمهم فى ظل غياب ابسط مقومات الديمقراطية وحكم القانون والتبادل السلمى للسلطة والتى هى من أبرز مقومات الاستقرار المجتمعى.
وبما أن التعاون الاقتصادى وربما أيضاً التكامل فى مرحلة لاحقة ضرورة ملحة تفرضها طبيعة التحديات التى تواجهها شعوب المنطقة، إلا أنها أيضًا تبررها قدرة هذه الاقتصادات لتقديم خدمات أساسية لخدمة بعضها البعض مما يؤدى لعملية تطورها ونموها لينعكس إيجاباً على استقرار المنطقة. وكلما بدأ التعاون بين هذه الاقتصادات على أسس سليمة سنكتشف مساحات واسعة للتعاون وتعظيم المصالح بينها. وإذا أخذنا إثيوبيا نموذجاً لدول المنطقة حيث يشهد اقتصادها نمو مطردا” فانه يحتاج للاستقرار والتعاون مع جيرانها مما يوسع خياراتها فى الاستفادة من فرص تبادل المنافع مع اقتصادات المنطقة والتى تتطلع هى أيضاً للاستفادة من السوق الاثيوبى الكبير. أما على المستوى الثنائى فإن تبادل المنافع بين الشعبين الارترى والاثيوبى كبيرة فى كافة المجالات شريطة ان يقوم هذا التعاون وفق الارادة الحرة للشعبين ومصالحهما، وليس ضمن صفقات سياسية تخدم بقاء الانظمة ومصالحها.
النظام غير العملة فحسم موقف المتلاعبين باقتصاده حتى أصبحوا بين خيارين مرين .. تسليم ما لديهم من الرصيد إلى سلطان الوقت أو أن تبور فى يدهم (نقفة) القديمة فأتوا إليه خاضعين .. النظام يتعامل بمكر وذكاء يحقق النجاح فى الصراع بينه وبين خصومه المحليين والمعارضين مارأيك؟
تبديل العملة فى أى دولة عملية مكلفة ومرهقة، ولا يمكن اللجوء إليها الا فى حالة الضرورة القصوى مع إقرارى بانها عملية سيادية يحق لكل سلطة ممارستها ضمن ضرورات تتطلبها حماية الاقتصاد الوطنى. ولكن السؤال المنطقى هو ماذا كانت دوافع تبديل العملة التى لجأت له الحكومة، وهل كانت له ضرورات مالية ونقدية أم كانت له أسباب تتعلق بالأمن الاقتصادي؟. الحكومة كعادتها لا تشرح سياساتها للرأى العام المحلى الذى لا تضع له اهتمامًا يذكر، ولكنها تحاول فى بعض الأحيان تسريب تفسيرات عبر قنوات غير رسمية تحاول من خلالها التأثير على توجهات الشارع الارترى، دون أن تلزم نفسها تقديم تفسير رسمى لإجراءاتها. على العموم، كانت الحكومة تمكنت من خفض الكتلة النقدية الهائلة التى كانت متداولة لمستويات منخفضة جدا” فى عام 2014م قبل عملية تبديل العملة. وبالتالى إن التفسير المنطقى لدوافع التبديل كانت على ما يبدو تصفية حسابات خاصة بمراكز المافيا المالية التى انخرطت فى نشاطات واسعة لمراكمة المال عبر استغلال نفوذها وسوء استخدام سلطتها، وهى جزء من بنية السلطة خاصة على مستوى المؤسسة الامنية والعسكرية بالاضافة لمؤسسات الحزب وشركاته التجارية، ولهذه المراكز أذرع متشابكة فى مؤسسات الدولة وخاصة فى قطاع المال والأعمال والجهاز المصرفى. وإذا كانت الحكومة صادقة فيما تقول إن تبديل العملة ضرورة أملتها مواجهة استهداف خارجى قصد تدمير الاقتصاد الوطنى, كان من واجبها شرح طبيعة هذه المؤامرة ،وحجمها ،والقوى الأجنبية التى تقف خلفها، أقول هذا دون الاستبعاد المطلق لمثل هذا الاحتمال لكثرة خصوم النظام ومناوئيه وخاصة من دول الاقليم. ولأن السلطة تعلم الشبكات المسيطرة على تداول العملة، لانها ، أى هذه الشبكات، تعمل برغبتها وتحت حمايتها، لا تريد أن تقول لنا ما ألحقه هذا النشاط الطفيلى الذى تمارسه شركات الحزب مثل (همبول) للتحويلات المالية وغيرها من أضرار بالغة بالاقتصاد الارترى. ذلك أن هذه الشركات وشبكة عملائها فى داخل ارتريا وخارجها هى من يسيطر على تجارة العملة واحتياطى الدولة من العملة الصعبة.
إن ما يثير الانتباه هو الإجراءات التى رافقت عملية استبدال العملة وما تبعها من قيود مشددة فى حرية المواطن للاستفادة من مدخراته لتلبية احتياجاته الحياتية مما يعتبر تعديا سافرًا على حق أصيل للمواطن فى كيفية استخدام ممتلكاته الثابتة والمنقولة وهو ما يقع خارج سلطة الدولة. إذ لا يعقل أن تتحول السلطة لولى أمر كل مواطن وتشرف على تصرفه فى حر ماله وكأنها تتعامل مع أشخاص غير راشدين فى تدبير أبسط أمورهم الشخصية، ومواجهة مسئولياتهم الاجتماعية.
من جهة ثانية هذا التقييد الشديد لقدرة المواطنين على السحب من ودائعهم ومدخراتهم وتمويل أعمالهم ونشاطاتهم وضع قيودًا لاتطاق فى كل الأنشطة التجارية والخدمية مما يترتب عليه أضعاف فرص النمو والانتعاش الاقتصادى، ويبدو أن اصطحاب مثل هذه القرارات لاينظرون للأمر الا من زاوية تصفية ما تبقى من القطاع الخاص ليخلو السوق لشركات الحزب، وكذلك زيادة وتيرة قهر المواطن وافقاره، واصطناع قيمة غير حقيقة لسعر صرف العملة الوطنية (النقفة) مقابل العملات الأجنبية الأخرى لأغراض دعائية لا تتماشى واحتياجات الاقتصاد الارتري وأوضاعه الحالية.
– ارتريا كانت تصدر سلع كثيرة الى السودان عبر التهريب فى حين يعانى شعبها من تقشف معيشى … ما الاهداف الحقيقية؟
ربما تقصد بذلك تجارة الترانزيت التى كان يسيطر عليها السودانيون وازدهرت بشكل كبير فى تسعينات القرن الماضى وخاصة فى فترة انقطاع العلاقات بين البلدين. ورغم اننى لا املك معلومات محددة بحجمها ودوافع الحكومة الارترية من تشجيعها ودعمها، الا أنه ليس من الصعب تقدير آثارها السلبية على الاقتصاد السودانى وكذلك الارترى . الا أن الملفت فى الأمر هو عدم حماس السلطات السودانية المعنية لمحاربة هذه الظاهرة بل العكس من ذلك تمامًا كان يتم فى بعض الأحيان حمايتها وتسهيل إنسيابها دون عوائق تذكر من كل الأطراف المستفيدة فى الجهتين. كما أن جزءاً من هذه السلع كانت تعود بنفس قنوات التهريب لإغراق السوق الارترية باسعار أقل من أسعار السوق بسبب انخفاض قيمة الجمارك المفروضة عليها فى ميناء مصوع بحجة انها متجهة للسودان وليس السوق الارترى. وكانت الأرباح الطائلة التى تحققها هذه التجارة تذهب لخزائن الحزب وشركائه الذين كانوا يشرفون على هذه العملية.
انت تدرك العدد الضخم من اللاجئين الارترين فى السودان خاصة وغيرها عامة .. انه شعب فقير لاطموح لكثير منه غير توفير حد المعيشة … هل يمكن أن يعتمد عليه لتوفير دعم مادى لعمل عسكرى وسياسى باهظ التكلفة؟
تجربتنا فى الثورة تجاوزت ترف السؤال فيما كان متوفًرا لانطلاق الكفاح المسلح بقيادة الشهيد حامد ادريس عواتى فى العام 1961م واعتمدت على الإرادة ووضوح الهدف والوسيلة. ومتى ماكان هناك قضية عادلة ووسيلة مقنعة لن يتردد الشعب فى دعمها وحمايتها، دون التقليل من أهمية إبراز قيمة التضحية والإخلاص والثبات لمن نذر نفسه لخدمة المصلحة العامة. إن القوى المتضررة من سياسات النظام أكثر وعياً و إدراكاً بحجم المعركة وطبيعتها، ولا ينقصها الوعى فيما يجب القيام به لهزيمة الدكتاتورية، الا أنها تحتاج البديل الديمقراطى المقنع الذى يعكس معاناتها ويستجيب لتطلعاتها وتثق فى قدرته على حماية مستقبلها. ومثل هذه المهام الكبيرة والمتشابكة لا يمكن ضمان تحققها فى واقع التشرزم والانقسام الطاغية فى المشهد السياسى اليوم. لذلك ليس هنالك من خيار آخر أمام قوى التغيير الديمقراطى غير توحيد جهودها ورص صفوفها لنيل ثقة الجماهير ودعمها ومساندتها، ووقتها فقط ستتكشف الطاقات الهائلة لشعبنا التى يحتاجها إحداث التغيير وضمان نتائجه.
رئيس النظام الارترى فى أحدث مقابلة تلفزيونية يشتكى من فئات أرترية فى الخارج تقوم بتحويلات مالية إلى أسرها بارتريا متهما إياها بأنها تقوم بالإضرار باقتصاد الوطن وترمى الرصاصة تحت قدميها.. من الناحية العلمية الاقتصادية هل دعم المغتربين لأسرهم فى الوطن عبر تحويل عملة صعبة دون المرور بمصارف النظام هل يضر ذلك بالاقتصاد الوطنى؟ وما الأسباب التى تجبر المواطن المغترب لاختيار هذا الطريق فى دعم أسرته؟
لجوء النظام لاتهام غيره فى كل ما يتعلق بفشله والنتائج الكارثية لسياساته ثقافة متأصلة فى نهجه عمل على الترويج لها بشكل مستمر يدعو للشفقة، وهى على العموم لا تدعو للقلق لأن الشعب الأرترى على ا\إلمام تام بها ولا يمكن أن تصرفه عن مهمته الأساسية فى تعزيز وحدته الداخلية والتمسك بحقوقه الأساسية فى الحرية والديمقراطية والعدالة. واذا كان هنالك نشاط إجرامى يستهدف إلحاق الضرر بالاقتصاد الإرترى خارج القنوات المصرفية للدولة فهى أجهزة الحزب وشركاته التى تحتكر التعامل يالنقد الأجنبى، حيث تسيطر هذه الشركات من خلال منافذ البيع والشراء على كامل حلقات تداول النقد الأجنبى. وإذا كانت الحكومة حريصة على سلامة الاقتصاد الوطنى فعليها تحويل سلطة إدارة النقد الأجنبي للبنك الوطنى مع سن القوانين التى تعزز استقلاليته وحمايته بالقانون. وفى نفس الوقت تمكين الوزارات من استعادة اختصاصاتها فى قطاعات البناء والاستيراد والتصدير وتحرير قطاعات الدولة من هيمنة الحزب وشركاته الاحتكارية التى لاتخضع لضريبة الأرباح التجارية كما لاتلتزم بسياسات الوزارات وبرامجها. إن دعاوى وجود قنوات خاصة لتداول النقد الأجنبى لا تستند لأى معطيات واقعية وإنما غايتها هو تمهيد الأرضية لضرب بعض مراكز السلطة وتعزيز أخرى إما خوفاً من سطوتها أو طمعاً فى ضمان ولائها.
السطر ألاخير فى المقابلة خالى ….. ماذا تكتب فيه؟
لا يسعنى الا أن أعبر لك عن عميق شكرى وامتنانى لدعوتك الكريمة لهذا الحوار المرهق متمنياً لك التوفيق والسداد وولقراء موقعكم الأمن والاستقرار.
السيرة الذاتية :
1 – ولد في أرتريا عام 1962م،
2 – درس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة كسلا السودانية ،
3 – خريج جامعة أمدرمان الإسلامية كلية الاقتصاد
4 – التحق في وقت مبكر بالاتحاد العام لطلبة أرتريا
5 – شارك في دورات تدريبية داخل ارتريا وخارجها في مجال تخصصه ” الاقتصاد “وفي مجال البحوث والدارسات الاجتماعية
6 – شارك في عدد من الورش والمؤتمرات العلمية داخل ارتريا وخارجها
7 – عمل في وزارة المالية قسم إعداد الميزانيات لمدة خمس سنوات
8 – عمل في التعليم الثانوي بأسمرا لمدة ثلاث سنوات تقريباً
9 – عمل باحثاً قرابة عشر سنوات ومسئولاً عن وحدة البحوث والدراسات باتحاد الشباب في مقره العام بأسمرا .
10 – أنجز العديد من البحوث والدارسات بينها :
- الحركة الطلابية الأرترية ، الدور والموقع
- الاستثمار العربي في أفريقيا ،ارتريا نموذجاً . طبع الكتاب برعاية اتحاد الشباب الإرتري
11 – خرج من ارتريا مهاجرًا عام 2010 م واستقر في استراليا
كاتب حاضر، عرف الإعلام منذ أيام كان طالبًا في الثمانيات ، يرى أن القضايا الضعيفة توجب المناصرة القوية ولهذا يتشبث بالقلم