التعايش الوطني وإشكالية الدين والدولة
د. حسن سلمان
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد :
أشكر الإخوة القائمين بمؤتمر سدري على دعوتهم لي للمشاركة في هذا المؤتمر بورقة حول: التعايش الوطني وإشكالية الدين والدولة، وهو موضوع جدير بالمناقشة باعتباره أحد القضايا السياسية التي تتباين فيها وجهات النظر، وقد أحببت أن أدلي بدلوي في هذه القضية حسب رأيي من منطلق إسلامي وباستصحاب الواقع الإرتري.
المحور الأول: التعايش الوطني :
التعايش الوطني ضرورة من الضرورات الإنسانية الملحة التي تنشدها الأديان وتمليها العقول، وتتمثل ضرورته في كونه الضامن الأساسي للحفاظُ على سلامة الكيانات الوطنية ووحدتها وسيادتها , والركيزة الأساسية لبناء المجتمعات المتماسكة والقوية، والدعامة الأهم في صلاح شأن الناس في مختلف جوانبه ( السلام والأمان والتنمية ).
والتعايش في الذاكرة الجمعية الإرترية له قيمة تاريخية وسياسية واجتماعية متأصلة، فالإرتريون في الأصل شعب متعاون ومتضامن ومتعايش بدرجة كبيرة.
مفهوم التعايش:
لا يستقيم لنا الأمر في بحث مسألة التعايش، ما لم نحدّد بدقّة، مفهوم التعايش اصطلاحاً، باعتبار أن التعايش هو المحورُ الرئيس للقضية موضوع الدراسة برمتها.
بالرجوع إلى الدلالة اللغوية للتعايش، التي هي الأصل في اشتقاق الاصطلاح، نجد في المعجم الوسيط، تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودّة، ومنه التعايش السلمي، وعَايَشَه :
عاش معه. والعيش معناه الحياة، وما تكون به الحياة من المطعم والمشرب والدخل(1). وهي على وزن ( تفاعل) الذي يفيد وجود العلاقة المتبادلة بين طرفين.
وإذا دقّقنا في مدلولات مصطلح التعايش الذي شاع في هذا العصر، الذي ابتدأ رواجُه مع ظهور الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية اللتين كانتا تقسمان العالم إلى معسكرين متناحرين قبل سقوط سور برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، ـ نجد أن البحث في مدلول هذا المصطلح يقودنا إلى جملةٍ من المعاني مُحَمَّلةٍ بمفاهيمَ تتضارب فيما بينها، ولكن يمكن تصنيفُها إلى مستويات ثلاثة :
المستوى الأول: سياسي، إيديولوجي، يحمل معنى الحدّ من الصراع، أو ترويض الخلاف العقائدي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في المرحلة السابقة، أو العمل على احتوائه، أو التحكُّم في إدارة هذا الصراع. وقد عُرف التعايش، أول ما عُرف، على هذا المستوى الأول.
المستوى الثاني: اقتصادي، يرمز إلى علاقات التعاون بين الحكومات والشعوب فيما له صلةٌ بالمسائل القانونية والاقتصادية والتجارية، من قريب أو بعيد.
المستوى الثالث: ديني، ثقافي، حضاري، وهو الأحدث، ويشمل ـ تحديداً ـ معنى التعايش الديني، أو التعايش الحضاري. والمرادُ به أن تلتقي إرادةُ أهل الأديان السماوية والحضارات المختلفة في العمل من أجل أن يسود الأمنُ والسلام العالم، وحتى تعيش الإنسانية في جوّ من الإخاء والتعاون على ما فيه الخيرُ الذي يعمّ بني البشر جميعاً، من دون استثناء.
وعلى ضوء المستويات الثلاثة يمكن التعامل مع المصطلح في السياق الوطني وننظر في أبعاده ومراميه.
أسس التعايش الوطني :
يتضح من تأمّلنا في دلالات ومعاني المستويات الثلاثة جميعاً، أن التعايشَ يستند إلى أسس أربعة هي :
( 1 ) الإرادة الحرّة المشتركة.
( بحيث تكون الرغبةُ في التعايش نابعةً من الذات، وليست مفروضةً تحت ضغوط، أيّاً كان مصدرها، أو مرهونةً بشروط، مهما تكن مسبباتها).
( 2 ) التفاهم حول الأهداف والغايات.
( حتى لا يكون التعايش فارغاً من أي مدلول عملي، أو لا يحقّق الفائدة للطرفين، بحيث يكون القصدُ الرئيسُ من التعايش، هو خدمةَ الأهداف الإنسانية السامية وتحقيقَ المصالح المشتركة، وفي مقدمتها استتبابُ الأمن والسلم في الأرض، والحيلولةُ دون قيام أسباب الحروب والنزاعات، وردعُ العدوان والظلم والاضطهاد الذي يلحق بالأفراد والجماعات).
( 3 ) التعاون على العمل المشترك.
( من أجل تحقيق الأهداف المتفق عليها، ووَفقاً لخطط التنفيذ التي يضعها الطرفان الراغبان في التعايش، المصمِّمان عليه ).
( 4 ) صيانة التعايش :
( بسياج من الاحترام المتبادل، ومن الثقة المتبادلة والشعور بالمسؤولية المشتركة أيضاً، حتى لا ينحرف التعايش عن الخط المرسوم، لأي سبب من الأسباب، وحتى لا تُغلَّب مصلحةُ طرفٍ على مصلحة الطرف الثاني، مهما تكن الدواعي والضغوط، وذلك بأن يتمَّ الاحتكام دائماً إلى القواسم المشتركة، وإلى القدر المشترك من القيم والمثل والمبادئ التي لا خلاف عليها ولا نزاع حولها ).
فالتعايش، بهذا الفهم الموضوعيّ لطبيعته ولرسالته، هو وجودٌ مشترك لفئتين مختلفتين, تتفقان على تنظيم وسائل العيش ـ أي الحياة ـ فيما بينهما وفق قاعدة يحدّدانها، وتمهيد السبل المؤدّية إليه، إذ ان هناك فارقاً بين أن يعيش الإنسان مع نفسه، وبين أن يتعايش مع غيره، ففي الحالة الأخيرة يقرّر المرء أن يدخل في عملية تَبَادُلِيَةٍ مع طرف ثانٍ، أو مع أطراف أخرى، تقوم على التوافق حول مصالح، أو أهداف، أو ضرورات مشتركة.
القيم الإنسانية في التعايش الوطني :
هنالك حزمة من القيم الأولية والأساسية التي يبنى عليها مبادئ التعايش بين أبناء الوطن الواحد، وبإقرار تلك القيم واحترامها وتفعيلها سياسياً وقانونياً وثقافياً تنتج روح التعايش للمجتمع على تنوع وتعدد مكوناته منها :
1/ الكرامة الإنسانية :
الإنسان مكرم بتكريم الله وتفضيله له على سائر الخلق قال تعالى مؤكدا هذه الحقيقة (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) – سورة الإسراء ، آية 70 –
وبناءً على هذا التكريم تمت عملية التسخير الكوني للإنسان فالكون كله مسخر له وهو مستخلف في الأرض تحقيقاً للعبودية وإعماراً للأرض وهذا التكريم حق لكل إنسان مهما كان وضعه الاجتماعي وبصرف النظر عن جنسه أو لونه أو عرقه أو دينه, ويبدأ التكريم مع الإنسان وهو جنين في بطن أمه ويستمر معه حتى يفارق الحياة وقد جاءت الشرائع ( الأديان ) كلها بتأكيد الكرامة الإنسانية وتحريم كل ما يؤدي إلى الحط من قدرها سواءً كان ذلك مادياً أو معنوياً فلا يجوز إيذاء الإنسان باللسان أو ضربه باليد أو التعدي عليه بالقتل لأن كل ذلك يتنافى والكرامة الإنسانية, وعلى هذه القيمة تتأسس سائر القيم فإذا ما أهدرت هذه القيمة وانتهكت كرامة الإنسان فإنه لا معنى لسائر القيم لأن الإنسان محورها وأساسها.
2/ الرحمة والبر والاحسان بالخلق :
إن من أنبل الأخلاق الإنسانية خلق الرحمة وهو ضد القسوة وبالرحمة يتعايش الخلق ويتعاونون وبالقسوة يتنافرون ويتقاتلون لأنه خلق يتجاوز مسألة الحقوق والواجبات إلى مرتبة المروءة والشهامة والتبرع والإحسان فبه تملأ الفجوات التي تسببها طوارئ الحياة وقصور النظم الثقافية والاجتماعية وهو الخلق الذي يكسو الحياة رونقاً وجمالاً ويمتد هذا الخلق ليتجاوز عالم الإنسان إلى عالم الحيوان والأشياء فيكون التعامل معها بالرحمة, وبذلك يكون الإنسان رحمة للعالمين جميعاً و يستحق المدد والرحمة من الرحمن الرحيم, يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ لاَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ. ) – رواه الترمذي ، جزء 3 ص 387 – وقال صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ لاَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ ) – أخرجه الإمام أحمد في المسند ج 3 ص 40 – وقال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة) “.أورده الألباني في الصحيحة رقم 167. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبوهريرة رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ -صلى الله عليه وسلم- صَاحِبَ هَذِهِ الْحُجْرَةِ يَقُولُ « لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ ) – سنن أبي داوود ، باب 44 الرحمة جزء 4 ص 441 –
وقال صلى الله عليه وسلم : (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ ) – سنن أبي دوود ، جزء 4 ص 440 –
بل حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول امرأة النار في هرة (فَقَالَ قَدْ دَنَتْ مِنِّي الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا لَجِئْتُكُمْ بِقِطَافٍ مِنْ قِطَافِهَا وَدَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ فَإِذَا امْرَأَةٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ قُلْتُ مَا شَأْنُ هَذِهِ قَالُوا حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا لَا أَطْعَمَتْهَا وَلَا أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ قَالَ نَافِعٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ خَشِيشِ أَوْ خَشَاشِ الْأَرْضِ )- رواه البخاري ، جزء 1 ص 342 –
وفي رواية الإمام مسلم :عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ) – أخرجه الإمام مسلم .جزء 4 ص 1760-
وقيمة الرحمة يجب أن لا تنزع عن الإنسان حتى في الحروب وذلك بأن لا يقاتل الإنسان إلا المقاتل فلا يقتل طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ولا عابداً منكفئا على عبادته ولا مدنياً لا يؤدي وظيفة حربية، وأن تكون الحرب محكومة بالقوانين العادلة ومستندة إلى المشروعية في قيامها.
ومن مظاهر الرحمة الرفق والبر والإحسان والتكافل ورعاية الفقراء والمساكين و الضعفاء وأصحاب الحوائج من الناس جميعاً فالمجتمع الذي تسود فيه هذه القيم تقل فيه التوترات الاجتماعية ويتأسس على المحبة والوفاق والتعايش.
3/ العدل والمساواة والتكافؤ :
العدل عبارة عن الأمر الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وهو نقيض الظلم ويعد قيمة إنسانية اتفق عليها العقلاء وقامت عليها الشرائع ( الأديان ) وتأسس عليها نظام الكون كله فالأمم والشعوب تلتقي وتتفق على العدل وتختلف على الظلم بل وتنهار المقدسات كافة عند الظلم فلا يبقى في شعور المظلوم شيء مقدس, والعدل من القيم المطلقة التي لا تقبل النسبية بأن يكون الإنسان مثلاً عادلاً مع أقربائه وأهل ملته ودينه وظالماً لغيرهم فإن هذا مما لا يقره العقل ولا النقل بل العدل يجب أن يكون حتى عند العدساوة والخصومة, قال تعالى(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) – سورة المائدةآ آية 8 . – لا تحملنكم العداوة والخصومة على الظلم وترك العدل والعدل هو القسطاس المستقيم الذي به توزع الحقوق وبه تحمى الحرمات وينتظم به الوجود الإنساني وتأخذ قيمة العدل قدسيتها في الأديان والشرائع بأن من أسماء الله العدل وأن الظلم من أكبر المحرمات التي حرمها الله علي نفسه وعباده كما جاء في الحديث القدسي (عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) – أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ، باب تحريم الظلم. –
والعدل قيمة شاملة تغطي مجالات الحياة الإنسانية كافة فيكون العدل في القضاء والحكم وفي السلطة والثروة وفي بناء العلاقات الاجتماعية. يقول الإمام علي بن طالب لمالك بن الأشتر عندما ولاه على مصر (ليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً فالناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وعلى العدل تتأسس المساواة والتكافؤ في العلاقات الإنسانية بمعنى أن يشعر الجميع بأنه يأخذ ويعطي وفق مستويات متساوية أو متقاربة حتى تستمر العلاقات ويدوم الوئام بين الناس وعلى المساواة والتكافؤ تتأسس المواطنة التي هي رابطة بين عنصرين(المواطن )وهو الإنسان المنتمي و(الوطن) وهو مكان الانتماء الجغرافي وتوجب المواطنة حقوقاً وواجبات بين المواطنين تقوم على المساواة والتكافؤ لتتأسس الشراكة الوطنية بعيداً عن مفهوم التراتب في المواطنة الذي يؤدي إلى الغبن والشعور بالظلم المؤدي إلى الانفجار والاحتراب والنفس البشرية جبلت وطبعت على حب الخير للذات والاستئثار بالمغانم التي تؤدي إلى بناء القصور إلى جانب أكواخ الفقراء والمعدمين الذي هو من أكبر مصادر الشقاء الاجتماعي المؤدية إلى انفجار الحروب في كل مكان.
ومن قانون العدالة في التعامل الإنساني بين الآحاد والجماعات مبدأ المعاملة بالمثل بالنسبة لاستيفاء الحقوق أو أداء الواجبات أو انتهاك الحرمات فإن الاعتداء يوجب الاعتداء والاحترام يوجب ا لاحترام وهذا من المبادئ الأساسية في إطار العلاقات والتمثيل الدبلوماسي الخارجي.
4/ الحرية :
الحرية من أكبر مظاهر الكرامة الإنسانية , وهي الطريق الصحيح إلى الإيمان , وهي أساس المسؤولية , وإن الانسان حر منذ الولادة إلى أن يموت, والحرية تعني أن يملك الانسان شخصيته ويثبت كيانه ويحدد خياراته , بعيداً عن أي نوع من الاكراه أو التسلط وبهذا المعني فإن الحرية أغلى شيء في حياة الإنسان , وفي سبيل الحرية يقدم نفسه ويعرضها للمخاطر والأهوال , وهي من القيم التي تأتلف عليها الشعوب الأبية وتناضل من أجلها وتقدم في سبيلها المهج والأرواح , كما أن الحرية هي طريق الإبداع الإنساني والإعمال العقلي المؤدي إلى النجاحات في كافة الصعد الإنسانية المتعلقة ببناء الحضارات واعمار الكون, والأمة التي تصادر حريتها أمة مسلوبة منكسرة لا تعرف للحياة معنى ولا للإبداع وإعمال العقل وزناً وغالباً ما تستمرئ التبعية للآخر( لأن المغلوب مولع بتقليد الغالب )- على حد تعبير- ابن خلدون.
والحرية تشمل حرية الاعتقاد والتفكير وحرية الكلمة والتعبير وحرية التصرف والتنقل وحرية الانتماء والاختيار السياسي وحرية التجمع والتكتل الحزبي والتنظيمي أياً كان نوعه مادام يلتزم بثوابت الأمة وقيم المجتمع وينضبط بالقوانين المتفق عليها.
على أن الحرية التي ننادي بها هي الحرية المسئولة المنضبطة حيث لا يسع المرء أن يمس حقوق الآخرين وينتهك حرماتهم وإلا فهي الفوضى والفساد.
5/ التسامح وقبول الآخر:
من أهم القيم الإنسانية في التعايش بين البشر قيمة التسامح وقبول الآخر ونعني بها تحمل عقائد المخالف وآراءهم وأعمالهم وإن كانت تخالفنا أو باطلة في نظرنا وترك الطعن والتجريح والإيلام رعاية للعواطف والأحاسيس مع عدم اللجوء إلى وسائل الجبر والإكراه لصرفهم عن عقائدهم أو منعهم من الإدلاء بآرائهم أو القيام بأعمالهم وهو من المبادئ المقررة في آيات الكتاب منها قوله تعالى(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) – سورة الأنعام ، آية 108 – وقوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) – سورة القصص ،آية 55 – وقوله تعالى: ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)- سورة الكافرون ، آية 6,- والتسامح لابد منه لإبقاء جو السلام وحسن التفاهم بين الأفراد والجماعات المختلفة العقائد, المتباينة الآراء والمبادئ على أن يكون الحوار الهادئ والمجادلة بالحسنى هما السبيلان في نقد الآراء والأفكار بعيداً عن المهاترات والمصادمات, فالتسامح يثري الحوارات المنضبطة وتجري في إطاره أشكال التعامل بكل حيوية.
وإن المجتمعات والشعوب تكون بأمس الحاجة إلى التسامح في ظل حالات التوتر العصبي من خلال الشعور بالمظالم وما يترتب على ذلك من منازعات واختلافات يحس فيها كل فرد بأنه يعيش مأساة فريدة وينتظر من الآخرين أن يقدروا له ذلك وأن يناصروه ويساعدوه في قضيته, وهنا تظهر قيمة الإحساس المرهف بأن يبدي كل واحد ما يستطيع من التفهم لأوضاع الآخرين بسعة صدر وانفتاح عقل وهو حقيقة المسامحة.
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
6/ الحوار :
الأصل اللغوي للحوار مأخوذ من الحور وهو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء والمحاورة هي مراجعة الكلام فالحوار هو تراجع أو مراجعة الكلام بين طرفين فأكثر دون أن يكون بينهما ما يدل بالضرورة على الخصومة. وإسلامياً كان الحوار نقطة تلاقي وتواصل بين الله وبين أنبيائه وحياً وتشريعاً إلى درجة قد يتنزل تشريع من مستوى يرى أنه ثقيل إلى مستوى آخر خفيف نتيجة إيجابية للحوار ولعل مما يدل له حديث الإسراء والمعراج وقد جاء فيه (قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَضَ اللهُ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى فَقَالَ مُوسَى مَا الَّذِي فَرَضَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ (فُرِضَ عَلَيْهِمْ خَمْسُونَ) صَلَاةً قَالَ فَرَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَقَالَ هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) – رواه البخاري ، جزء 1 ص 1601 الطبعة الهندية –
فمن باب أولى أن يكون الحوار مشروعا بين الناس لمعالجة قضاياهم ولأن الله تحاور مع الأنبياء المقربين وقد تحاور مع الشيطان الطريد من الرحمة الذي ظفر بشيء من المكسب نتيجة للحوار بينه وبين الله قال تعالى : ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) – سورة الأعراف ، آية 14 – وكثير من الأنبياء استخدم الحوار مع الله ومع خلق الله وبالحوار الحسن كانت دعوات الأنبياء تتنزل و تجادل مخالفيها ولم تَرَ فيه منقصة حتى لو لم يثمر استجابة الطرف المخالف وإقناعه ويقتدي في هذا المؤمنون اللاحقون بالمؤمنين السالفين لأنه دين يسوق معتنقيه للتوصل – بالحوار – مع الآخر إلى العمل المشترك لتحقيق مصالح العباد جلباً للمصلحة ودفعاً للمضرة وتشتد الحاجة للحوار الملح وتكراره مع المخالفين وتنويع نهجه وتطوير أدواته كلما نفر الطرف الآخر منه وعزف عنه كما هو واضح في قصة نبي الله نوح – عليه السلام – مع قومه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا 5 فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا 6 وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا 7 ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا 8 ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا 9 ) – سورة نوح ، آيات 5 – 9 –
ولهذا يظل للحوار قيمة نبيلة للتواصل مع الآخر وتتحقق به ثمار إيجابية لكل الأطراف ويعد من القيم الإنسانية الفاضلة ومن المبادئ والأهداف العظيمة لأنه الأساس في تقريب الأفكار والرؤى ووجهات النظر المختلفة والوصول إلى نقاط التقاء وسد الفجوة والهوة بمنهجية وعقلانية بين الفرقاء وهو وسيلة لا غنى عنها لتجاوز واقع التجزئة والخروج من حالة الاستقطاب والاستنفار والاستنفار المضاد على المستوى الوطني حفظاً للتجانس الاجتماعي والإجماع السياسي وتعزيزاً وحماية للوحدة الوطنية وانتشالاً للوطن من وضع الانحدار والتفتت وصولاً به إلى حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي المنشود وكلما تجذرت في المجتمع ثقافة الحوار تراجعت ثقافة العنف والصدام و به تقاس عملية التمدن والتحضر في المجتمعات.
7/ التعارف والتعاون :
خلق الله الخلق وجعلهم مختلفين شعوباً وقبائل ومللاً وطوائف وألواناً وأشكالاً وجعل ذلك سنة ماضية عبر الزمان لا يمكن إلغاؤها وجعل الحكمة من ذلك التعارف والتعاون سبيلاً إلى قضاء الحاجات الإنسانية وقديماً قالوا (الإنسان مدني بطبعه ) أي أنه كائن اجتماعي لا يستطيع العيش بمفرده دون أن يتعامل مع أخيه في الإنسانية لتتم الاستفادة والإفادة, ويعتقد البعض بأن الاختلافات العرقية والدينية واللغوية عائق من عوائق التعايش والتلاحم والوحدة الوطنية فيعمل جاهداً على تذويبها بالعنف والإكراه دون جدوى لأنها من حقائق الوجود الإنساني وأن إدارة التنوع في إطار الوحدة خير من سلوك طرائق التذويب والإقصاء والإلغاء.
والإنسان محكوم بمجموعة ولاءات ومطلوب منه التوازن بينها, فهناك دائرة القربى النسبية والقربى العقدية والقربى الجوارية والقربى الوطنية, والقربى الإنسانية , والإنسان لا يستطيع أن ينفك عن أي واحدة منهن ولكنه مطلوب منه إدارتها بشكل صحيح في إطار مفهوم التعارف والتعاون بعيداً عن العصبيات الممقوتة.
وخلاصة القول إن التنوع أساس التعارف والتعارف مدخل إلى التعاون الذي هو أساس التعايش بين الناس على كل مستوياتهم.
8/: الوفاء بالعهود :
الثقة من أعمدة العلاقات الإنسانية لأنها المدخل للتعاون والتكاتف بين الناس ويستحيل قيام حياة اجتماعية من غير قدر ما من الثقة تؤسس عليه العلاقات المختلفة وكثيراً ما تقوم العلاقات بين الناس عبر العقود والعهود التي يلتزمون بها في المجالات كافة فإذا ما تم الوفاء بها استقامت الحياة بينهم وتعززت الثقة وأما عند نقضها أو التلاعب بها فإنه ينهار بنيان الثقة ويختل ميزان التعامل بين الناس.
وعلى صعيد التعايش الوطني هناك منظومة من العهود والمواثيق بدءَ بوثيقة الدستور ومروراً بالقوانين المختلفة وانتهاءً بالنظم واللوائح المنظمة للأعمال المختلفة فمتى ما التزم الناس بما تواثقوا عليه ازدادوا قوة وتلاحماً ودبت فيهم روح الحياة الكريمة ومتى ما كانت المواثيق عرضة للنقض هان على الناس روح الانضباط وقيمة الوفاء وسادت بينهم الفوضى والانتهازية وهنا يكون انتحار المجتمع, وتأخذ العهود قدسيتها في الأديان بأن كل عهد وعقد مضروب بين طرفين فإن الله ثالثهما, قال تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) – سورة الإسراء ، آية 34 – وقال تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ).- سورة النحل ، آية 91 –
وبالالتفاف الإيجابي حول تلك القيم الموحدة وتحويلها إلى مشاريع سياسية واجتماعية تحملها الأطراف كافة وتتبناها في تعاملها الديني والفكري والثقافي ستشكل أرضية صلبة يبنى عليها دعائم التعايش المشترك.
كما أن انعكاس معاني ومضامين تلك القيم في دستور وقوانين الدولة يعتبر أقوى ضمانة لمستقبل التعايش الوطني.
شروط التعايش الوطني
يستند التعايش الوطني على عدد من الأمور الضرورية وهي :
1-إقرارالتعدد والتنوع :
(إقرار التعدد والتنوع كمعطى موضوعي جغرافي وتاريخي , بمخرجاته المتنوعة (دينيا –لغويا – ثقافيا… الخ ).
2-الاعتراف الصريح بالآخر :
(الاعتراف الصريح والموضوعي من قبل أطراف وشرائح المجتمع ببعضها البعض وجودا وحقوقا أولا , ومن ثم القبول بأصول وقواعد العمل السياسي السلمي).
3-إحترام الثوابت والخصوصيات :
( احترام خصوصيات وثوابت كل الأطراف وضمان وجودها وحقوقها والحفاظ على مستقبلها وقيمها , والتعامل السليم مع الخصوصيات والثوابت على أسس العدالة والمساواة , وسيادة منطق القانون ودولة المؤسسات ).
4-إدارة التنوع والاختلاف بشكل سليم :
( التعايش الوطني لا يعنى ولا يلزم منه تنازل كل طرف عن ثوابته وخصائصه ومفاهيمه الدينية والثقافية , وكما أنه لا يقوم على أنقاض الخصوصيات وصهر الاختلافات الفردية والفئوية والعقدية وإنما عن طريق إدارة تلك الاختلافات بشكل حضاري سليم ).
5-التمثيل العادل للأطراف كافة :
( كلما نجحت الدولة في التعبير والتمثيل الحقيقي والعادل لمواطنيها دونما تمييز أو إقصاء كلما نجح المجتمع في التعايش والتماسك، والعكس صحيح ).
6-النظام الديمقراطي اللامركزي :
( لا يمكن تحويل حالة التعايش بين مكونات المجتمع وفئاته إلى حقيقة راسخة وثابتة إلا في ظل نظام ديمقراطي تعددي لا مركزي حقيقي , قائم على القانون والمؤسسات, يستوعب الاختلافات والتنوعات بمختلف درجاتها وأشكالها ويصون الخصوصيات لكل الأطراف ).
الجهات المعنية بالتعايش الوطني :
كل الأطراف المكونة للوطن دون استثناء معنية بتعزيز ثقافة التعايش الوطني والاستقرار والسلم الأهليين و توثيق عُرى الوحدة الوطنية، وهي مهمة جماعية مشتركة تمس كل الأطراف تأتي في مقدمتها التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني, والحكومة بكل مؤسساتها وقوانينها التي يفترض أن تقنن للتعايش خاصة المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية والتي ينبغي أن تسهم بدرجة عالية في تعميق روح الانتماء للوطن والأرض واحترام الخصوصيات وإشاعة ثقافة المواطنة والتسامح، كذلك دور رجال الدين والمؤسسات الدينية يتعاظم بالدعوة للإخاء والتعايش والعدالة والمساواة بين المواطنين , والمجتمع الأهلي بثقافته الاجتماعية المتسامحة والنابذة للعنف والتعصب معني في تعزيز فرص التعايش باعتبار التعايش سلام اجتماعي أولا وقبل كل شيء.
المحور الثاني: علاقة الدين بالدولة :
يدور جدل واسع في الساحة الفكرية والسياسية حول طبيعة علاقة الدين بالدولة وذلك منذ نشوء الدولة ا لقومية الحديثة في الغرب ورفعها لشعار فصل الدين عن الدولة واعتبار ذلك آخر ما وصله الفكر الإنساني ومحاولة عولمة هذا المفهوم وجعله مفهوماً معيارياً يتم من خلاله قياس الحداثة والتقدم والورقة تحاول أن تعالج هذه الإشكالية من خلال الوقوف على مفهوم الدين وطبيعته في المنظومة الشرقية الإسلامية إلى جانب المنظور الغربي ومن ثم إيجاد مقاربة فكرية وسياسية لمجتمعنا الإرتري المتعدد الأديان والأعراق , الذي يعتبر من المجتمعات الناشئة التي تتلمس طريقها للحياة الكريمة.
أولا: الدين والدولة في الإسلام :
حتى تتضح الصورة لابد من وقفات عامة ومجملة حول طبيعة الدين والدولة في الإسلام والمسيحية ولنبدأ بطبيعة الدين والدولة في الإسلام على صعيد الفكر والممارسة العملية من خلال النقاط الآتية :-
- ارتبط مفهوم الدين بالدولة عند المسلمين منذ العصر النبوي الأول بناءَ على أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم مارست الرسالة الدينية وقامت بأعباء المهام السياسية دون أن يكون هنالك فصل بين الدين والسياسة والسلطة.
- ارتبطت الأمة الإسلامية بالكتاب – القرآن – والذي نجده حافلاً ومليئاً بمعالجة القضايا الدنيوية في مجالاتها كافة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في إطار توحيدي بعيداً عن الثنائيات (دين ودولة – جسد وروح – الناسوت واللاهوت – النقل والعقل ) التي هي سائدة في المنظومة الغربية.
- إن القرآن جاءت فيه عدد من المفاهيم التي تؤسس لمنظومة سياسية متكاملة وإن لم يرد فيه معنى الدولة بمفهومها المعاصر مما أدى إلى ترسيخ مفهوم حاجة الدين إلى الدولة كوسيلة من الوسائل التي يحتاجها المسلمون في القيام بمهمة الاستخلاف ومن هذه المفاهيم (الحكم, الاستخلاف, التسخير, الأمة, الإمام, البيعة, الطاعة, أولى الأمر, التشريعات المختلفة, الحرب, السلم, الصلح, الهدنة, الخ….) وهذه المفاهيم يصعب تنزيلها على الواقع إلا من خلال نظام سياسي وسلطة حاكمة وهذا يرسخ الارتباط بين الدين والدولة في المخيلة الإسلامية.
- تجربة الخلافة الراشدة في الإسلام هي استمرار على ذات النهج النبوي والتي رسخت بدورها مفهوم الترابط بين الدين والدولة وهي التجربة التي تمثل بالنسبة للمسلمين المثال الذي يحتذى.
- الدولة الأموية والعباسية والعثمانية لم تنفصل عن مشروع الدولة في التجربة الإسلامية وإن اختلفت في بنياتها وهياكلها الإدارية مستفيدة من الإمبراطوريات التي كانت سائدة آن ذاك وذلك لأنها قامت باسم الإسلام ولم تكن لها مرجعية غيره تتلقى عنها الأحكام التشريعية, إذ ظلت الشريعة الإسلامية هي مصدر الأحكام , بالرغم من أن هذه الدول شهدت متغيرات في التكوين باعدت بين صيغتها المؤسسية وبين صيغة دولة المدينة ليس على صعيد بنية السلطة فيها وتضخم مؤسساتها بل على صعيد الأسس التي قامت عليها دولة المدينة فغابت مثلاً الشورى والاختيار الحر وتحولت البيعة من عقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم إلى صورة شكلية يلتزم فيها الضعيف – الأمة – بشروط القوي وتحولت دولة الخلافة إلى ملك تتوارثه العوائل ولا شك أن ذلك سيؤثر في مدى حاكميه الشريعة على الدولة كلها مما يعني تراجع دور الدين بشكل جزئي عن بعض مجالات الحياة وخاصة فيما يتعلق بالسلطة.
- هذا التراجع لدور الدين على مستوى السلطة ظل محل إشكال بين ما يمكن أن نسميه حملة الكتاب – العلماء والفقهاء – وبين رجال السلطة السياسية وربما قامت بسبب ذلك ثورات وسالت فيها دماء لم يستطع أحد طرفي المعادلة من إبعاد الآخر أو إقصائه نهائياً بل ظل الأمر سجالاً بين الطرفين مع التأكيد على أن الصراع بينهما كان صراع توحيد للسلطتين وليس محاولة إقصاء الدين عن الحياة , فالسلطة السياسية مثلاً تريد أن تكون جامعة للديني والدنيوي بشرعية الدين وقوة السلطة والعلماء يريدون التماهي بين الدين والدولة دون أن يكون هنالك تراجع للدين في أيٍ من مستويات الحياة غير أنه لم تلغ هذه المتغيرات وهذا التدافع بين العلماء والأمراء ثوابت دولة المدينة القائم على الاتصال بين المجال السياسي والديني في تحقيق الشرعية.
- بالرغم من الاتصال بين الديني والسياسي في الدولة الإسلامية إلا أن طابع الدولة الإسلامية هو طابع مدني ونعني بذلك بأنها كيان سياسي قام منذ البدء على رابطة مدنية مع اختلاف الدين فكانت دولة المدينة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم هي دولة المواطنة أي أن يكون الانتساب إليها بالرابطة السياسية من خلال الولاء للدولة ونظامها السياسي , وليس بالرابطة الدينية: فالولاء هنا ولاء سياسي مدني ولاء للدولة لا للدين خاصة عند غير المسلمين حيث إنهم لم يجبروا على اعتناق العقيدة الدينية الإسلامية ومع ذلك ظلوا مواطنين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين, وعلى ذلك فإن مقولة الدولة الدينية لا تتمتع في تجربة الإسلام بأي شكل من أشكال الشرعية إذ إن السلطة في الإسلام وإن ارتبطت في مرجعيتها بالدين إلا أن الممارسة السياسية فيها ممارسة بشرية لا قداسة فيها للحاكم ولا مجال فيها لطبقة كهنوتية تحتكر الحق والرأي بل مجال الاجتهاد مفتوح لكل من امتلك أدواته ومجال النقد والمناصحة متاح لكل مواطن رأى خروجاَ عن القانون المتبع وأن الأمة هي صاحبة السلطة الحقيقية تفوض من تراه أهلاً لقيادتها دون أن يكون له حق إلهي أو تفويض نبوي بل الشورى هي الحاكمة.
- لم تعرف التجربة الإسلامية سلطة دينية بالمعنى الذي عليه في الغرب حيث الكنيسة كانت تمثل سلطة حقيقية بإمكاناتها ونفوذها وتحكمها على السلطة السياسية بل تحكمها أخيراً علي حركة البحوث العلمية والصدام مع كل ما هو جديد من الأبحاث العلمية أما دور العلماء والفقهاء فهو دور إرشادي تربوي ويكون ا لقبول له طواعية مع تنوع الاجتهادات من غير أن يعرف في التجربة الإسلامية تصادم بين العلم الشرعي والعلم الحديث بل بلغت الاكتشافات العلمية مداها في ظل تأثير رجال العلم الشرعي.
- برزت فكرة الفصل بين الدين والدولة في العالم الإسلامي مع مجيء الاستعمار وارتبطت بفكرة العلمانية فوجهت بالرفض منذ الوهلة الأولى لأنها في المخيلة الإسلامية تصادم حقائق الدين وثوابت التجربة التاريخية الإسلامية وظلت القضية في العالم الإسلامي مثار جدل وتدافع بين الشعوب وأنظمتها السياسية وتباينت العلاقة بين الدين والدولة وأخذت أشكالاً عدة على النحو الآتي :-
(أ) الاندماج والاتحاد بين السلطتين الدينية والسياسية وكأنها سلطة واحدة حيث تظهر الدولة بثوبها السياسي بروح ومضمون ديني وهذا ما تحاوله كل الدول التي تسعى إلى أسلمة نظامها السياسي كإيران والسودان مثلاً بالرغم من وجود صعوبات تواجه هذا النوع من الأنظمة والحكومات.
(ب) التحالف بين السلطتين وهو السائد عملياً وتطبقياً في الكثير من البلاد التي تدين بالإسلام حيث هنالك فروق ومجالات عمل لكل سلطة مع وجود تحالف بينهما في كل ما يخدم الشأن العام ويحقق مصلحة السلطتين وغالباً ما تكون العلاقة متأرجحة حيث تقوى إحدى السلطتين وتضعف الأخرى وحينها تكون الضعيفة تابعة للقوية مع ملاحظة أن ميزان القوة غالباً ما يميل لصالح السلطة السياسية بحكم طبيعة نظام الدولة الحديثة وميلها نحو التحكم والسيطرة.
(ت) الإبعاد والإنكار , وغالباً ما يحدث ذلك في الأنظمة الأيدلوجية التي تطبق مشروعاً حضارياً وسياسياً تؤمن به وشكل العلاقة هنا إما الإنكار التام باعتبار السلطة الدينية معطلة للمشروع الحضاري وخطرة عليه (كالأنظمة الشيوعية) أو الإبعاد باعتبار السلطة الدينية معرقلة لمشروع العلمنة الشامل كما هو الحال في تركيا.
(ث) الاستقلال والفصل وهو الشكل الذي يختلف عن شكل الإبعاد والإنكار ويقترب من شكل ا لتحالف حيث هو تحالف مع حفظ الحدود بأن يكون لكل سلطة ميدانها ورجالها مع وجود التعاون فيما يخدم الشأن العام الديني والسياسي.
ثانياً: العلاقة بين الكنيسة والدولة في التجربة الغربية:
بالرغم من أن الأديان السماوية كلها ذات صبغة توحيدية إلا أن للمسيحية في تجربتها العملية من خلال مواقف الكنيسة ورجال الدين نظرة خاصة تميزت بها كجماعة دينية لوظيفة الدولة وكانت هذه النظرة منسجمة لما هو موجود في الكتاب المقدس المتداول الآن الذي يعبر عن الولاء المزدوج من خلال مقولة (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) فالمسيحي يمكنه أن يفرق بين ولائين الولاء للدين والكنيسة والولاء للدولة والسلطة حتى بعد اعتناق قسطنطين المسيحية واعتبارها الدين الرسمي للدولة فقد ظل رجال الدين يؤكدون على ثنائية السلطة المدنية والسلطة الدينية حيث وظيفة الأولى حماية الدولة ووظيفة الثانية حماية الأخلاق فيما عرف بنظرية السيفين (the tow swords) وظلت المسيحية توازن بين هاتين السلطتين زمناً طويلاً ولكن فيما بعد تنازع كل من الكنيسة والأباطرة في الانفراد بالسلطة حيث تحدى شارلمان السلطة الدينية وأدعى أنه عين بواسطة الرب مباشرة دون الحاجة إلى البابا ومن ناحية أخري فقد حاول البابا عزل الإمبراطور هنري الرابع وشهدت العلاقة بين السلطتين مداً وجزراً بين السيادة البابوية المطلقة والنزاع والشقاق والتحالف بين البابوية وكل من الأباطرة ورجال الإقطاع حتى صار الباباوات يتولون تتويج الملوك وعزلهم بل اتسع نفوذ الكنيسة لتتحكم في حركة المجتمع كافة وطرائق تفكيره و نجم عن ذلك الصراع المعروف بين الكنيسة ورجال العلم ومن هنا بدأت الثورة على الكنيسة ورجالها وعلى الأنظمة الملكية وكان الشعار حينها (اخنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس ) وبالفعل تم الانتصار على الاستبداد الديني الكنسي والسياسي الملكي وبدأت المناداة بفكرة الفصل بين السلطة الدينية المتمثلة في الكنيسة وبين السلطة السياسية وارتبطت عملية الفصل بفكرة جديدة ترتكز عليها المنظومة الغربية وهي فكرة العلمانية, التي يعرفها قاموس اكسفور بأنها الدنيوية أي مالا يهتم بالروحي والديني, ويشير القاموس بأن عبارة السلطة العلمانية يقصد بها الدولة مقابل الكنيسة – انظر العلمانية منظور إسلامي , د. عبد الله حسن زروق, ص 5-6 .
مبادئ العلمانية وغاياتها :
- تقوم العلمانية على تطوير حياة الإنسان بالوسائل المادية بعيداً عن الأديان وتعتقد أن ذلك أكثر كفاءة لتحقيق التقدم والتطور وإشباع حاجيات الإنسان.
- تأسيس المعرفة العلمية على التجارب والحس بعيداً عن الوحي كمصدر للمعرفة فالعلم عندها (ما عرف بالحس والتجربة).
- أهداف الإنسان يحددها الفرد والمجتمع وهي عادة ما تكون الحصول على اللذة أو السعادة أو تحقيق الذات حتى ولو تعارضت مع الأديان فلا اعتبار في المنظور العلماني للأهداف المرسومة من خلال الهدى المنزل من الله تعالى عبر رسله وكتبه.
- شكلت العلمانية منظومة متكاملة في العلوم ليس على صعيد العلوم الطبيعية والحيوية والتطبيقية فقط بل حاولت تأسيس نظرية علمانية في مجال العلوم الاجتماعية والسلوك ورفاهية المجتمع مما يعني أن العلمانية فكرة متكاملة عن الحياة والكون والإنسان بعيداً عن المنظور الديني فبالتالي يمكن أن يطلق عليها بأنها دين جديد لأصحابها لو تعاملنا مع الدين بأنه كل ما يدين به الإنسان ويقدسه سواء ارتبط بالسماء أو نبع من الأرض.
- علاقة العلمانية بالدين علاقة انفصال لا اتصال ويلزم من ذلك عدم دخول الإيمان والإلحاد في إطار اهتمامات العلمانية لأن كليهما حسب ما تدعيه العلمانية لا يمكن التحقق من صدقه أو كذبه بالتجربة أو بالتحليل المنطقي المجرد.
- العلمانية قد تشترك مع الدين في الاهتمام بالمسائل الأخلاقية ولكن من منظور مغاير حيث تؤسس منهجيتها في الأخلاق على الفكر البشري بينما تؤسس منهجية الأخلاق في الدين على النص المقدس – انظر العلمانية منظور إسلامي د.زروق ص 15- 16.
العلاقة السائدة بين الدين والدولة في التجربة الغربية الراهنة :
وكما سبق القول إن الصراع في الغرب بين الدين والدولة تولدت عنه فكرة جديدة صارت هي الحاكمة في المجالات الإنسانية وهي فكرة العلمانية بكل أبعادها, وفي ظل هذه الفكرة يمكننا أن نحدد طبيعة العلاقة السائدة بين الدين والدولة في التجربة الغربية الراهنة وطبيعة المسارات التي اتخذتها على النحو الآتي :-
(أ) المصادمة للدين والاستيلاء عليه بقوة الدولة كما هو حال فرنسا اليعقوبية والدول الشيوعية وهو أنموزج تسلطي لا تكتفي فيه الدولة بإضعاف الدين ورده إلى دور العبادة أو المجال الخاص بل تسعى إلى انتزاع جذوره وإزاحته بالكلية عن وسائل الإعلام والوسائل التعليمية.
(ب) الانفصال الوظيفي بين الكنيسة والدولة والالتزام بحيادية الدولة إزاء الشأن العام (كالدول الاسكندنافية) مع ملاحظة صعوبة الحيادية في الدولة الحديثة التي هي ذات نزعة تدخلية قوية للسيطرة على أدوات التعبير الرمزي والديني.
(ت) الربط الوظيفي بين الكنيسة والدولة (بريطانيا – إيطاليا – اليونان) وإلى حد ما أمريكا التي فصلت دستورياً بين الكنيسة والدولة ولكن هنالك ارتباط من الناحية الواقعية وهذا النوع من العلاقة يمنح دوراً متقدماً للكنيسة والدين في إدارة الشأن المدني, ويمنح حالة من الوفاق والتناغم بين الدين والدولة حيث تسمح الدولة للكنيسة بالحضور في المجتمع المدني وتصبغ الكنيسة على الدولة نوعاً من الشرعية.
ومن خلال النظر لطبيعة العلاقة بين الدين و الدولة في الغرب يمكننا أن نقرأ حركة العلمنة وفقاً للاعتبارات الآتية :
(أ) إن قراءة العلمانية في السياق الواقعي العملي تختلف اختلافاً كبيراً عن سياقاتها النظرية المتشددة التي تري انتصار المادي على الديني وتبشر بعصر ما بعد الدين إذ لو كان ذلك صحيحاً لاختفت الكنيسة من المشهد الغربي, ولما كان هنالك حديث بهذا النوع من الترابط بين الدين والدولة مع اختلاف مساراته.
(ب) علينا أن لا نقرأ واقع الدين في الغرب من خلال نافذة الدولة إذ يمكن لدولة ما أن تكون بالغة المفاصلة بين الدين والمتدينين ويكون المجتمع على خلاف ذلك.
(ت) ليس بالضرورة أن يكون الإيمان متسقا مع التعبير المؤسسي إذ يمكن للمؤسسة الدينية أن تكون في حالة تراجع وتهميش في حين ترتفع معدلات التدين في الدائرة الفردية والعكس صحيح.
(ث) هنالك بوادر مواجهة بين العلمانية والدين في عدد من البلدان الغربية و بدأ التدين يظهر بقوة في الساحة السياسية بمختلف أشكالها والحالة الأمريكية خير شاهد على ذلك حيث نلاحظ أن المتدينين غالباً ما يصوتون للجمهوريين وأن غيرهم يصوت للديمقراطيين.
(ج) قضية الصراع بين الدين والدولة مرتبطة في المنظومة الغربية بالصراع التاريخي الطويل, حيث كان قديماً صراع بين العقل والدين في التجربة اليونانية وفي العصر الحديث هو صراع بين العلم والدين والجدير بالذكر أن الدين في العقلية الغربية هو مجموعة من الأساطير والتقاليد التي تواضع عليها البشر ولذلك اختلفت الدراسات التي تبحث عن أصل نشأة الدين بين إرجاعه إلى السحر أو الأساطير أو إعادته إلى نوع من الوحي الذاتي أو الحدس أو نظرية المادة الحية إلخ… والمدهش رغم كل هذه الاختلافات في التفسيرات حول نشأة الدين إلا أن الدين مازال لم يتزعزع من وجدان البشر بل يمثل الدين في كل حضارة أحد مرتكزاتها لأنه يجيب عن أسئلة الوجود الكبرى التي عجزت سائر الفلسفات عن الإجابة عنها وبالتالي لا نكاد نجد حضارة من حضارات التاريخ خالية من الدين كما يقول المؤرخ الإغريقي (فلوتارخس) (قد وجدت في التاريخ مدناً بلا حصون ومدناً بلا قصور ومدناً بلا مدارس ولكن لم توجد أبداً مدناً بلا معابد) وتأسيساً على ذلك يمكن القول إن رفض الفكر الغربي للدين لم يكن في حقيقته رفضاً للدين بالكلية بل كان موجهاً إلى الخرافات والأساطير والتجاوزات السلبية لرجال الدين, ويدل على ذلك محاولات رجال الإصلاح في إزالة ما علق بالدين من الخرافات التي نسجها الباباوات عليه, وقد كان ذلك مدار جهود رجال الإصلاح أمثال (اسبينوزا – ولينتز – وكالفن – ولوثر وغيرهم) ويمكننا أن نستند في ذلك على موقف سان سيمون الذي وقف في وجه البابا وكنيسته قائلاً: إنني أتهم البابا وكنيسته بممارسة البدع والهرطقات واتهم رجال الدين لعدم اكتساب أية معلومات من شأنها أن تجعلهم قادرين على قيادة الأتباع المؤمنين في طريق خلاصهم) – انظر منهاج البحث الاجتماعي , محمد محمد امزيان, ص14.
(ح) تعددت مسارات المعالجة في العلاقة مع الدين في العقل الغربي بدءً بمحاولات الإصلاح الديني لإشكالية الدين والدولة إلى محاولة الفصل والتمييز بينهما وانتهاءً بالموقف المعادي للدين وإقصائه من الدولة والمجتمع كما تطرحه الماركسية.
ومحصول القول إننا من خلال السرد لطبيعة العلاقة بين الدين والدولة نجد أننا أمام منظومتين مختلفتين نشأةً وتطوراً ولا يمكن بأية حال نقل وإسقاط إحدى التجربتين على الأخرى دون أن تكون لها مقاومة ربما تصاحبها آثار خطيرة والسبب في ذلك ما يلي:
- أن المنظومة الشرقية الإسلامية تقوم على توحيد الحياة لا تقسيمها ولا تعرف الفصل في تجربتها العملية عبر التاريخ.
- أن التجربة الإسلامية تقوم على كتاب منزل محفوظ يتأسس عليه مفهوم الدين عندها بعيداً عن الأوهام والأساطير مما يصعب معه تنزيل مفهوم الدين عند الغرب.
- إن الإسلام ليس كلمة روحية فحسب بل نظام شامل للحياة شرعت فيه الأحكام لتدور مع المكلف حيث ما كان سواء في قمة الدولة أو في قاعدة المجتمع.
- ليس في التجربة الإسلامية اصطدام مع العلم بل تحفيز عليه كما أنه ليس هنالك صراع بين العقل والنقل – إلا ما تسرب من الغرب في عصر الترجمة – بل هنالك تحفيز في نصوص الكتاب على إعمال العقول وجعلها مدار التكليف مع الإنكار على العقل أن يقتحم أسواراً بعيداً عن ميدانه كالولوج في الغيبيات التي لا تثبت إلا بدليل السمع المنقول –الوحي-.
- الإسلام لا يقر بوجود الدولة الدينية بمفهومها السائد في الغرب بل الدولة عنده دولة مدنية تكتسب شرعيتها بالتفويض الشعبي بعيداً عن نظرية الحق الإلهي التي سادت في الغرب والسياسات في هذه الدولة قابلة للخطأ والصواب والمراجعة والنقد بعيداً عن مفهوم العصمة والقداسة.
- ارتباط مسألة فصل الدين عن الدولة بالفكرة العلمانية تجعل المنظومة الإسلامية تتصادم معها ولا تقبل معها التعايش لأنها تنظر إليها بأنها فكرة مناقضة لمفهوم الدين عندها , كما أن العلمانية تستند إلى تصور دهري غير متجاوز ولا يؤمن بالغيبيات وترى في المادي والدنيوي مصدر للقيمة والمعنى وهذا مناقض لكل الديانات التوحيدية التي تؤكد على فكرة التجاوز وتربط بين المادي والديني وأنهما مصدر القيمة والمعنى.
- إن القول بفرضية الحياد في العلمانية غير مسلم به في المنظومة الإسلامية وذلك لأن الحياد لا يكون إلا عندما يكون مجال الدين مختلفاً عن مجال الدولة والدين محصوراً خارج مجال الدولة وهذا ما لا يمكن تصوره في الإسلام الذي يتدخل في مجالات الحياة كافة
العلاقة بين الدين والدولة في المجتمعات المتعددة :
وإذا كان هذا هو الطرح النظري التجريدي لطبيعة علاقة الدين بالدولة في المنظومتين الشرقية الإسلامية والغربية فكيف يمكن أن نحدد طبيعة العلاقة بين الدين والدولة في مجتمع متعدد الأديان والأعراق والثقافات والأفكار كالحالة الإرترية, التي يصعب فيها فرض الخيارات بالقوة إذا ما أريد للكيان الوطني الإرتري الاستمرار في تماسكه ووحدته وفي ظل حالة التوازن إما الكمي أو الكيفي لمكونات المجتمع وبجانب الاختلالات الحاصلة في أرض الواقع من خلال ممارسات النظام الدكتاتوري في إرتريا فإن الورقة تتجه في النظر إلى العلاقة بين الدين والدولة – وخاصة من وجهة نظر إسلامية لمعالجة الواقع الماثل أمامنا الذي تشكل فيه نظرية الفصل بين الدين والدولة مشكلة عند المسلمين- إلى ما يلي :
- بالنظر إلى التعريف الكلاسيكي للدولة في العلوم السياسية فإنها تعني (الأرض – الشعب – السلطة السياسية ) وبهذا الاعتبار فإن الدين لا يمكن أن ينفك عن الشعب الذي هو ركن من أركان الدولة إلا أن تفقد الدولة أهم مكون من مكوناتها وذلك أن الدين له وجود حقيقي في المعتقدات الشعبية وبالتالي فإن طرح نظرية فصل الدين عن الدولة غير واقعية وتتصادم مع أهم ركن من أركانها وهو الشعب.
- وبالنظر إلى طبيعة الدين وحقيقته عند المسلمين فإنه يتكون من ثلاثة ركائز وهي (العقائد والعبادات – الأخلاق والقيم – الشرائع).
( أ ) المكون الاول: العقائد والعبادات :
( فبالنسبة للعقائد والتعبير عنها بالعبادات وهي المكون الأول في الدين الذي تتحدد من خلاله طبيعة العلاقة بين الإنسان والإله وهو ذو طابع خاص لا يلزم منه التعميم وليس له صلة مباشرة بالدولة أو السلطة وكل ما يحتاجه هو توفير الحرية والأجواء المناسبة لها وأن لا تتدخل السلطة فيها إلا بقدر ما يساعد على أدائها وأن تنظم كل طائفة هذا الجانب وفقاً لمعتقداتها وشعائرها وتقوم عملية التبشير بالدعوة بعيداً عن الإكراه قال تعالى(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) سورة البقرة ، آية 256.
( ب ) المكون الثاني: القيم والأخلاق
القيم والأخلاق ضرورية للفرد والمجتمع والسلطة لأنها تعمل على تهذيب النفوس وإيقاظ الضمائر والإحساس العام بالمسؤولية ولا يمكن لأي نظام سياسي أن يكون بلا قيم وهنا على الدولة أن تتبني القيم الإنسانية المشتركة كالصدق والعدل والحرية والمساواة والوفاء والرحمة والإحسان والبر والمواساة والوفاء بالمواثيق إلى غير ذلك مما سبق من القيم الأساسية في التعايش وهي كلها قيم ترتكز عليها الديانات وتتأسس عليها المجتمعات الراشدة وفي هذا الإطار فإن العلاقة بين الدين والدولة علاقة وصل لا فصل.
( ج ) المكون الثالث: الشرائع :
وشعار الفصل بين الدين والدولة غالباً ما ينظر إليه عند المناداة بهذا المكون في العالم الإسلامي ومعالجة هذه المسألة يمكن أن تتم من خلال الدستور ومصادره ومرجعياته بحيث تعتبر الأديان والأعراف والمواثيق الدولية مصادر ومراجع أساسية في إطار المشتركات الجامعة التي يمكن التوافق عليها.
وأما مجال الخصوصيات التشريعية فإنه يمكن معالجتها من خلال التشريعات اللامركزية لكل مجموعة دينية في إطار خصوصيتها المكانية والإنسانية بحسب الإمكان.
مع التأكيد على أنه في ظل المجتمعات المتعددة لا سبيل إلى فرض القناعات الخاصة بالقوة بل لابد فيها بقوة المنطق والإقناع بجدوى وصلاحية التشريع المعين وعند تعذر ذلك فإنه لا سبيل إلا الالتزام بما رأته الأكثرية حفاظاً على التعايش والتوافق الوطني وتجنيباً للبلاد والعباد من الاحتراب الداخلي.
ووفقاً لما سبق فإن أنسب ما يمكن أن تتفاعل فيه المكونات المجتمعية ويتحقق في ظله التعايش الوطني هو ليس الدولة الدينية – الثيوقراطية- التي يتحكم فيها رجال الدين على رقاب الناس وضمائرهم باسم الحق الإلهي والتفويض منه ولا الدولة العلمانية التي تتبنى مفاهيم الفصل بين الدين والحياة وتؤسس الحياة على منظومات فكرية جديدة دون التفات إلى طبيعة المجتمع المتدين متذرعة بالحياد لفرض ما تراه بالقوة على المجتمع بل النظام السياسي الأمثل في المجتمعات التي تتسم بالتعددية هو الدولة المدنية التي تكتسب شرعيتها من التفويض الشعبي والقبول الجماهيري وفقاً للمرتكزات الآتية :
(أ) نظام سياسي يتأسس على الدستور والقانون ويقوم على مبدأ سيادة الشعب ووحدة المجتمع ويحقق التنمية والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية وتكافؤ الفرص في السلطة والثروة ويكفل حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
(ب) نظام سياسي يقوم على التعددية السياسية والحزبية والالتزام بآليات التداول السلمي للسلطة.
(ت) توزيع السلطات إلى تشريعية وتنفيذية وقضائية وتجنب عملية التركيز في السلطة المؤدي إلى الاستبداد واعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة توزيعاً للسلطات بين المركز والأقاليم.
(ث) الالتزام بمبدأ المواطنة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات والحريات المدنية والسياسية.
(ج) الإقرار بالتعددية الدينية والثقافية والإثنية في البلاد مع إشاعة ثقافة المواطنة والحوار والتسامح وقبول الآخر.
(ح) العمل على تمكين مؤسسات المجتمع المدني والأهلي والصحافة من دورها الرقابي بما يؤدي إلى نقل جزء كبير من المهام التي تهيمن عليها الدولة إلى المجتمع وتقليص هيمنة الدولة حتى لا تستبد على المجتمع وبذلك يتحقق التوازن بقيام دولة قوية في مقابل مجتمع قوي.
(خ) بناء مؤسسات الدولة وارتكازها على النزاهة والشفافية والمسائلة والحيادية والكفاءة مع مراعات مبدأ التوازن السكاني في مؤسساتها.
(د) بناء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية على أسس قومية وطنية ويمنع في داخلها التنظيم والاستقطاب الحزبي ضماناً لحياديتها.
(ذ) اصدار القوانين التي تضمن المشاركة الوطنية في الحياة السياسية , وبناء المؤسسات التي تعمل على حمايتها وحراستها (محكمة دستورية- مفوضية انتخابات – إلخ…).
الخاتمة :
التعايش الوطني ضرورة لا فكاك منها وهي من الثوابت الوطنية , والأصول التي نادت بها الأديان والأعراف السليمة , فالأديان بكل نظمها وتشريعاتها وبكل ما تحتضنه من قيم ومتطلبات وحاجات تمثل الرافد الأول والبوابة الرئيسية لمشروع التعايش الوطني , وتظل المدخل الرئيسي لصياغة الواقع السياسي والاجتماعي المنشود على أساس الحوار والاحترام المتبادل وتعميق ثقافة حسن الظن والتسامح ونبذ ثقافة الكراهية والإقصاء.
في المجتمعات المتنوعة والمتعددة مثل مجتمعنا من الأهمية القصوى أن نتعامل مع حق العيش المشترك بوصفه من الحقوق المقدسة , والتفكير بالغلبة والتفوق والتمكن لطرف على حساب آخر غير ممكنة مطلقا , ومحاولة دمجه وتذويبه وإلغائه غير أنه نكران للواقع الفعلي وحقائقه الموضوعية , فإنه لن يفضي إلا لمزيد من التفكك والانقسام.
ولا خيار هنا سوى الإبقاء على التعايش الوطني كمظلة تقي حر الانقسام والتمزق وتحول دون نجاح مشاريع الهيمنة والتفتيت، وكمفتاح لتوطيد أسس التلاقي والتعاون على قاعدة الجوامع الإنسانية والقيم الوطنية المشتركة.
لذلك يظل التحدي الأكبر لنا كإرتريين هو كيفية صياغة حياة مشتركة وسليمة على ضوء احترام حق الاختلاف والتنوع والتعدد على صعيد الخصوصيات ونقاط التمايز العديدة فيما بيننا.
وهنا من الضرورة بمكان أن تبتدر فصائل العمل الوطني إلى حوار متعمق حول قضايا كثيرة ,في مقدمتها التعايش الوطني والوحدة الوطنية والدين والدولة ومشروع التغيير الوطني الديمقراطي والدولة الوطنية , ولعل مؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده تحت مظلة التحالف الديمقراطي يكون الأنسب لوضع أفضل صيغة من صيغ التوافق والتعايش بين مختلف مكونات المجتمع.
ملاحظة :
ورقة بحث بقلم د . حسن محمد سلمان .تم نشرها ضمن كتاب ملفات أرترية – لندن
كاتب حاضر، عرف الإعلام منذ أيام كان طالبًا في الثمانيات ، يرى أن القضايا الضعيفة توجب المناصرة القوية ولهذا يتشبث بالقلم