الموظف المالي إنسان ضعيف فطرة يحتمل في حقه أن يطاوع المؤثرات السالبة ولهذا تشتد حاجته لسياج عاصم وفيما يلي نصل الحديث :
أ – أهمية التربية للموظف المالي :
ينظر الإسلام إلى هذا الإنسان بأن الخير فيه أصيل والشر فيه طارئ حيث يولد على الفطرة لحديث (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ) [1] ثُمَّ يقرأ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [2] (ومعناه أن البهيمة تلد بهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها وإنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها) [3] فشبه بها الإنسان السوي في سلامة فطرته المعززة بالعمل بشرع الله المنزل [4] ثم تأتيه مؤثرات خارجية تذهب به ذات الشمال وذات اليمين ولهذا فهو محتاج دوماً لبرنامج دائم يعزز فيه جانب الحفاظ على الفطرة والدين ومن هنا يمكن تعريف التربية لغة بأنها ( إنشاءُ الشيءِ حالاً فحالاً إلى حَدِّ التمام ) وقد تطلق علي الزيادة والنمو في الإنسان جسماً وخلقاً ومعارف عبر منهج محدد يحقق تلك النتائج ويقصد بالتربية اصطلاحاً تعهد جسم الإنسان وعقله وروحه ووجدانه بواسطة منهج شامل مصمم لذلك . [5]
ورفها بعضهم بتعريفات كثيرة حسب اختلاف العلماء في العبارات وإن اتحدت المضامين. [6]
ويمكن تعريف التربية بخصوص موظف الإدارة المالية بأنها العمل على تعهده ببرنامج عملي ونظري يساعد على تنمية الإيمان والأخلاق والتأهيل المهني فيه بحيث يبقى مأمون الجانب في المال جلبًا وصرفًا وحفظاً محترماً للنظام الإداري والمحاسبي ومجوداً في عمله.
والإسلام يتعمق في تربية الإنسان ليصونه من الفساد إلى درجة يخاطب قلبه وسره كما يخاطب ظاهر جسمه وجهره خطاباً من شأنه حماية الإنسان من الوقوع في الفساد لأن السر السليم عمل للقلب السليم وهو يساعد على سلامة الأخلاق الظاهرة التي تتعظ بأدلة الشرع والترويض عليها حتى تعصم صاحبها من الإضرار بالمال أداء للأمانة تعبداً وهذه من أهم الخصال التي يعتني بها الإسلام في تربية وترويض الإنسان فمن سلم قلبه وسره سلمت بقية أخلاقه الظاهرة فأصبح مأمون الجانب ومما يدل عليه قوله – صلى الله عليه وسلم – : ( الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) . [7] بخلاف غيره فهو قد يتحايل على القانون أو يقوم بتزويره أو تطويعه تأويلاً لمصلحته فهذا إنسان فاسد يستعين الناس عليه بأدوات أخرى آلية تراقب سلوكه فهي مؤتمنة عليه وليس مؤتمناً عليها ولتحقيق الغرض التربوي في الموظف خاطبه الله تعالى موضحاً أنه يتابعه فإن أخفى شيئا من المال عن الناس فلا يمكن أن يخفى على الله ما يفعله من سوء تصرف ومن أفلت من مؤاخذة الناس في الدنيا بسبب الإخفاء فلا يمكن أن يجعله هذا الإخفاء في مأمن من علام الغيوب ومما يدل على هذا المعنى قوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) . [8]وسر القول المذموم يشمل المعاملات المالية السرية غير المشروعة فالآية نص واعظ يدعو الإنسان عند تعامله في المال أن يكون ملتزماً بالقانون قاعدة وأخلاقاً لأن الله يعلم ما يخفي من المال واردًا ومصروفًا وما يجهر به أي ما يلتزم به من قاعدة وجوب كشف الحساب وفق القواعد المحاسبية قابلة للمراجعة والتدقيق من الجهات الرقابية المسئولة فإن تجاوز هذا الحد المشروع بالتحايل أو بالاختلاس فإن الله له بالمرصاد لأنه يعلم ما في صدره ويعلم ما تفعله جوارحه وهذا خطاب تربوي يرغب أن يصلح أخلاق الإنسان الموظف في المال ليجعله مراعياً حق الله وحق الناس وواقفاً عند حده أجرة وحافزاً وهناك من الأدلة الشرعية ما يعزز الجانب التربوي للإنسان عامة وللموظف في المال خاصة فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال – صلى الله عليه وسلم- : ( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ) . [9] ومثله حديث: (..وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ ) [10] ففي هذين الحديثين بيان لما يؤاخذ العبد عليه من الأعمال السيئة وهو االتجاوز عن أعمال الباطن وتوجيه التهديد إلى العمل الظاهر قولاً أو عملاً فالإنسان الذي يعمل في إدارة المال إذا وسوست له نفسه بالتصرف غير المشروع في هذا المال فرفض لها وأعرض عن الحرام فلم تمد يده إلى ما لا يجوز له كما أنه لم تخرج منه كلمة تساند المختلسين والتستر على أفعالهم فقد نجا ومن خاض مع الخائضين اختلاساً أو بأي مساهمة أخرى تساعد في خيانة الأمانة في جمع المال من غير موارده أو صرفه في غير بنوده فقد هلك.
الهوامش :
[1]- – رواه البخاري وغيره – صحيح البخاري ، مصدر سابق ، ج1 باب 2 ص 613
2- – سورة الروم ، آية30
3- شرح صحيح مسلم بن الحجاج ، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ) ، دار إحياء التراث العربي – بيروت ، ط2، 1392هـ باب كل مولود يولد على الفطرة ، ج 4 ص 2047
4- – مجموع الفتاوى ، شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ، جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن محمد النجديالحنبلي ، المجلد العاشر علم السلوك طبع تحت إشراف الرئاسة العامة شؤون الحرمين الشريفين ص 146
5- محجوب، عباس، أصول الفكر التربوي في الإسلام، دمشق، دار ابن كثير، 1398ه ـ – 1978م
6- أحمد، محمد حسين، الأهداف التربوية للعبادات في الإسلام، رسالة لنيل درجة الدكتوراه في التربية، كلية التربية، جامعة طنطا، قسم أول التربية، غير منشورة، 14.-
7- صحيح البخاري – مصدر سابق ، كتَاب الْإِيمَانِ – بَاب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ- رقم الحديث 52 –
8- سورة الملك ، آية 13
9 – صحيح مسلم – مصدر سابق، كِتَاب الْإِيمَانِ – باب تَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْخَوَاطِرِ بِالْقَلْبِ إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ : ج1 ، ص 81
10- – صحيح مسلم ، مصدر سابق ، ج1 ص 82
موظف المال العام
تربية الموظف
تربية موظف المال العام حماية من الفساد
د.حامد محمد حالفا قلم فقيه وأستاذ جامعي يهتم بالسياسة الشرعية والقضايا الفكرية ، يكتب البحوث العلمية المحكمة التي تعالج مشكلات المجتمع من الوجهة الإسلامية