مقالات وآراء

الحركة الإسلامية الأرترية تودع مؤسسها الأول الشيخ عثمان إدريس عنجوت

تصبيرًا لأنفسنا ، ووعظًا لها نبدأ  بالتذكير بالحقيقة ( كل نفس ذائقة الموت ، و إنما توفون أجوركم يوم القيامة ) وخير الناس من يترك للناس خلفه سيرة عطرة ، وتتقدمه إلى  الله سيرة عطرة

 وبين الميلاد القدر،  والأجل الحق،  يصبح الناس في ألم من مصيبة الموت . فكلما اختطف الموت عزيزًا كريمًا أثيرا نتوجع دون أن نخرج عن دائرة الإيمان  العميق والصبر الجميل . نعم نتألم،  ونحتمي بــ ( إنا لله وإنا إليه راجعون)  فهي الملاذ الآمن عند وقوع مصيبة الموت.

ذهب الشيخ عثمان إدريس عنجوت إلى الله وهو مذكور بالخير عند الناس  ، ونحسب أنه  مذكور عند الله بالخير ؛  لأن شهادة المؤمنين عند الله معتبرة ففي الحديث الصحيح : مَن أثنيتم عليه خيرًا، وجبتْ له الجنَّة، ومن أثنيتم عليه شرًّا، وجبت له النار، أنتم شُهَداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)

عنجوت اسم عرفته منذ أواخر سبعينات القرن الماضي  فوجدته :

رجل الدين المعتدل ، والسياسة الصادقة ، والأمن الفطن ،  له مقام في المسجد كمقامه في العمل التنظيمي والاجتماعي .

كان رائدًا محبوبًا مطاوعاً. كان يدير عمله دون صياح ولا قسوة ، و دون إشعار الناس بأنه فوقهم إمارة وديانة وخلقا. كان يأتي في المدينة المنورة – حرسها الله –  زائرًا  ونظن انه ضيف عابر لكنه كان يشغل منصب العلاقات  الخارجية في الحركة الإسلامية الأرترية – وهو منصب وصفة عرفناها لاحقاً بعد سنوات من السمع والطاعة الواثقة-   وهي كانت تدير فروع التنظيم خارج أرض المقر

تلك أيام مباركات ، ما كان الناس يعرفون من الأمير؟  ومن  الوزير؟  وإنما الثقة مغروسة في قلوبهم لكل شخص ولكل جهد  وكان كل شخص يهتم باللبنة التي تليه ، والغرسة التي بيده وهو ا لشعور نفسه تتحلى به كل الرعية وهذا من شأنه أن يجعل بناء التنظيم متماسكًا متيناً تتلاقى الغصون فيه لتكوين الشجرة الظليلة ، وكان التنظيم  تمثله الشعب في كل منطقة وهي تتكون من أسر يكثر عددها حسب كثرة العضوية وحسب طبيعة الظروف المحيطة بالعاملين  ،

يتواصل الشيخ عنجوت بهدوء مع الجهة المسؤولة ،  يعطي ويأخذ في الطرح والرأي والمراجعات التنظيمية. دون ان تحس أنه مسؤول ، ودون أن تجد تعنيف مسؤول . يصل توجيهه  إلى قلوب وعقول الإدارات الدنيا لطيفاً  ، كما يصل النسيم إلى الأجسام . لم يكن ملكاً ولا كانت الرعية ملائكة،  لكن في  ذلك  الزمن الجميل كانت الأخوة فيه – ولا تزال بين الأحبة إن شاء الله  – تزرع الثقة بين العاملين والحب الجميل وحسن الظن .

كان عنجوت كثير السؤال عن أحوال أحبابه ، يسأل عن التفاصيل دون أن يعطيك التفاصيل. وهذه من ميزاته التربوية التي تحتاط للعمل كيانًا وأفرادًا وأسرارًا. يستقبلك بابتسام ويودعك بمثلها ، فيأسر قلبك بين ابتسامتين صَدَقَتَين طبيعيتين دون تصنع

الميلاد البشرى :

كان ميلاد عنجوت بشرى في الحركة الإسلامية  الأرترية إذ لم يكن أحد يدرك أن طفلا يولد في قرية وسط البهائم  سيكون له شأن في الدعوة والتربية والعمل لله وليكون المؤسس الأول للحركة مستقلة عن غيرها من الحركات الإسلامية العاملة في الوطن العربي .

ولد الشيخ عثمان أبو تقوى في قرية عام 1954م  تقريباً وبين الميلاد والوفاة قريبا من سبعين عاماً قضاها وهو يرعى شرع الله مع أحباب الله بيعة ووفاء وعملاً وتضحية قائدًا ومقوداً وهو في كلا حاليه متواضع هاش باش . نعم القرية  تلد الرجال الأبطال الخالدين بالذكرى الطيبة، غير المنكسرين أمام من يظن أن الانتساب على القرية  والقبيلة  مسبة ومنقصة توجب على المتصفين بها التواري عن الأنظار والتخلف عن الصدارة .

مراحل التعليم :

عندما شب عن الطوق وأدرك اتجه الشيخ عثمان عنجوت إلى الخلوة حتى مكث فيها يقرأ القرآن الكريم حسب رواية رفيق دربه الشيخ أبو آمنة إدريس علي نور الذي أضاف :

كنت معه في الخلوة وقد تعرفت عليه من قريب فبنينا علاقة وثقة وأخوة لم تنقطع حتى لحظة الوفاة فقد دامت أكثر من  خمسين عاماً على ود جميل وتضحية وعمل دائب.

وقال أبو آمنة : ظل الشيخ عنجوت يحفظ القرآن الكريم خلال عام 1969م   في خلوة السيد الحسن ، ثم توجه  إلى أمدرمان ليلتحق  عام 1971م بمعهد القسم العام بالجامع الكبير في أمدرمان التابع للشؤون الدينية  فأكمل سنواته الأربع هناك فنال الشهادة المتوسطة عام 1975م  . قبل بموجبها في المعهد العلمي بأمدرمان  مباشرة بعد حصوله على الشهادة المتوسطة، ليقرأ المرحلة الثانوية .

تقدم به اجتهاده وحسن بلائه بفضل الله تعالى حتى وجد منحة بالمملكة العربية السعودية بمعهد الرياض العلمي فطار إلى هناك عام 1978م  ليقبل في السنة الثالثة فنال الشهادة الثانوية . التحق بعدها بكلية أصول الدين قسم الإعلام في جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية. فبقي هناك حتى أكمل المرحلة الجامعة . تأبط شهاداته وتأهيله فشد الحزام لخدمة أهله بينما كثير من أمثاله يحث عن العمل وتحقيق الهدف الخاص قبل الهدف العام .

لحظات الوفاة

أتى من كسلا إلى القضارف لحضور مناسبة عرس لابن أخيه ، وانقضت المناسبة على خير بتاريخ الجمعة  الثالث من شهر يوليو 2020م. بقي ثلاثة أيام بعدها وكان يحس بفتور عام في جسمه ، أحس  بضيق نفس يتصاعد  وهي حالة كانت تزوره في عمره  بين فترة وأخرى ، فلم ينكر ما كان مألوفا لديه،  ولم يتخوف أهلوه ولا توقع أن يكون أجله في حالة معتادة لديهم كانوا يتعايشون معها دون خوف .

زار المستشفى يبحث  عن  علاج فانتهى به المطاف إلى الوفاة ، كان الأجل المحتوم هناك بانتظاره ، أيام معدودات فإن انقضت فلا راد لقضاء الله وقد رحلت الروح إلى رب رحيم خلقها وهو أرحم بها ، لم يترك الخالدة وإنما ترك الفانية واتجه إلى الخالدة

من صفاته :

عرفه الناس خلوقاً وقوراً وهادئ الطبع ، اجتماعياً بشوشا ، آلفاً مألوفاً كان حلال العقد القبلية عليما بدواخلها وكان محترما بينها لما تعلم من شأنه من الإخلاص والعدل والخبرة والدراية والحكمة ولهذا لم يغب عن مجلس إصلاح اجتماعي بين مكونات القبائل .

يسألك عن أهلك ويتعارف في أول اللقاء ،  ويأسرك بابتسامته الجميلة ، كتوم الأسرار فلا تظفر منه بمعلومة عن العمل العام إلا في حدود المكان والزمان الخاصين .غفور عن المعتدين عليه ، يقيم الأمور بعقل وحجة ويستخدم الهدوء وسيلة لإيصال رأيه إلى قلوب الآخرين دون ضجيج .

كان من الطراز الأول لسلف الإسلاميين الأرتريين في العمل الجاد ، والصبر الجميل ،والتضحية بكل شيء من أجل أداء الواجب العام . عاش لله ، ومات في الله،  نحسبه كذلك ولا نزكيه على  الله .

عاش فقيرًا،  ومات كذلك فقيرًا ، وقد عاش في دولة خليجية  التي تهفو إليها القلوب رغبة في الغنى والمال لكنه ودعها بعد إكمال الدراسة بقناعة أن أهله أولى بالمعروف ، وأن العمل العام واجب الطاعة،  وواجب التحمل،   يستحق أن يتفرغ  لأدائه الدعاة ويصبرون على  ما في طريقهم من لواء .

قال لي عارف سره وجهره : إن الشيخ عثمان لا يمتلك بيتا وإنما تسكن أسرته  في بيت وهبه إياه أحد أصدقائه  المقربين وهي أخلاق الدعاة الصالحين ، أهل الريادة والولاء والود الجميل  إنها صفات الأنصار والمهاجرين الذين أثر من سيرة بعضهم أنه هم بتطليق إحدى زوجاته لأخيه المهاجري.

أسرته :

ترك الشيخ الوقور  – ما شاء الله – من الأولاد 12 بين بنين وبنات وقد أحسن تربيتهم . وكان أغلى ما يرثونه من والدهم   من متاع الدنيا  السيرة العطرة من خلق طيب وذكر حسن وورع وتقوى  وإيثار العمل العام على العمل الخاص  والتضحية لتحقيق مصلحة الآخرين وقد ترك لهم الله الذي لا تضيع ودائعه . وظل يوفي بما عاهد الله عليه حتى أتاه الأجل ، كان يسع الناس بأخلاقه وحسن معشره

ترقيه في العمل القيادي :

كانت الحركة الإسلامية الأرترية جزءا من الحركة الإسلامية السودانية  بناء على أنهم أفراد ملتزمون بالعمل الإسلامي فكرًا وسلوكًا وعملاً  ثم تعمق لديهم فكرة إنشاء العمل الارتري الخاص بناء على أن أرتريا تحتاج إلى جهدهم  الخاص فكان الشيخ عثمان إدريس عنجوت المؤسس الأول للعمل الإسلامي الأرتري المستقل  وكانت أول مجموعة يترأسها  ” أسرة ”  نشأت في امدرمان  وكان من بين أعضائها رفيق دربه الشيخ أبو آمنة إدريس علي نور والشيخ إبراهيم ميبتوت وآخرون  وأنشأ في مواقع مختلفة أسرا مختلفة عبر التواصل الحميم بين الدعاة وبين الشيخ المؤسس عثمان عنجوت صاحب المبادرة الأولى .

روى  لي الشيخ ابو آمنة أن الحركة الإسلامية الأرترية نشأت سراً خالصة مخلصة بعيدًا عن المؤثرات الخارجية فهي وإن كانت متأثرة بالتوجه الإسلامي العام بالمنطقة العربية عامة وبالسودان خاصة التي يتفاعل مع الإسلام الحركي فإن الحركة الإسلامية الأرترية كان لها هم خاص جعلته من أولوياتها وهو العمل لصالح أرتريا الوطن والشعب بناء على أنه قليل النصير ، وعظيم البلاء،  وظلت هكذا تواجه بالصبر الجميل اعتداءات الأعداء،  وقد قسا عليها السودان حتى الإسلاميون منهم الحاكمون حيث اعتقلوا قادتها ، و صادروا ممتلكاتها ، و ضيقوا على نشاطها،  وفرضوا عليها خيار المغادرة من أرض السودان ،  وسلموا بعض أعضائها إلى عدوها ؛ النظام الحاكم في أرتريا  وكان ذلك من أسوء ما فعله السودان بقوم مجاهدين مظلومين نصرة لنظام الجبهة الشعبية الذي يكيد للسودان أرضا وشعبا أشد الكيد ويرسل إليهم فتنا صماء بكماء محيرة  بين فترة وأخرى  حتى أخذ السودان الرسمي يتودد إلى الساحر لينجو من نفثه . .

الشيخ القائد :

شهد كل المراحل التنظيمية اللاحقة للحركة الإسلامية الأرترية. في حركة الرواد كان جزئا من القيادة، و مثل ذلك في حركة الجهاد ، وحركة الخلاص، وفي الحزب الإسلامي ، وفي حزب حادي لم يتخلف عن العمل ، للدين وللوطن ، ولم ينكث كما نكث كثيرون ، ولم يفجر في الخصومة عند حدوث اختلافات تنظيمية شق فيها بعض السلفيين عصا الطاعة. ولهذا ظل الطرف المصلح  مرضي الكلمة ، الحادب على المصلحة العامة .

الشيخ أبو آمنة يضيف في روايته لسيرة  المرحوم :

ظل الشيخ ابو تقوى  يشغل منصب مسؤول العلاقات الخارجية الذي اثمر تقاربا إيجابيًا واضحًا بين الإسلاميين فيما بينهم، وبينهم وبين قوى المعارضة الأخرى التي كونت جبهة التضامن في حلقة من حلقات العمل الأرتري المعارض.

والشيخ أبو تقوى ظل عضوًا قياديًا في صف الحركة الإسلامية الإرترية منذ النشأة وحتى وفاته

كان فاعلاً في كل تحولاتها الإيجابية التي تقدر المصالح المرحلية والاستراتيجية ، وتدير شأنها عبر المؤتمرات الدورية الراتبة والطارئة وعبر النظم والمواثيق واللوائح الإدارية .

المشهد الأخير:

عرفت الساحة الإسلامية الأرترية خطباء وكتاباً وصاعدي منابر عامة ولم يكن لأبي تقوى نصيب  مشهود في هذه الميادين ولهذا ظل خافت  الصوت لدى الجماهير العامة لكنه صاحب الحضور القوي المؤثر في علاقات الحركة الإسلامية بالتنظيمات الأرترية الأخرى وبأطراف خارجية ولهذا غلب عليه أصدق وصف ذكره حديث شريف فقد أخرج  مسلم في صحيحه أن سعد أبي وقاص روى حديثا عن  الرسول صلى الله عليه وسلم قال : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ ) ولهذا كان حضور أبي تقوى في العمل الإداري والعلاقات الخارجية والمجال التربوي دون أن يكون له  صوت جاهر لمخاطبة الناس عامة كما أنه لم يكن يستهويه الظهور الإعلامي ولهذا لم يؤثر عنه أنه نشر مقالا ولا نشر مقابلة مع جهة إعلامية ولا تحدث عن نفسه معددا مآثرها إنه العبد التقي الخفي والغني بقناعته ودينه وكريم خلقه .رحم الله أبا تقوى وأجزل مثوبته وأحسن وفادته ولا حرمنا أجره وجبر كسرنا فيه ، نحسب أنه عالم عامل ولا نزكيه على الله .

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى