د.فاطمة: الأماني بين البناء والتدمير
الأماني كائن حي ؛ يكبر وينمو كلما وجد البيئة المناسبة ، ويتعرض للقتل والتدمير عندما تحيط به ظروف وعوارض ضد النمو ، و ضد الحياة ، وضد التطوير ..
واول ما يبنى الأماني كلمة تغرسها التربية في قلب الإنسان، والكلمة الطيبة صدقة ، وهي أيضا بذرة صالحة لزرع الأماني الحالمات ..
وعن نفسي أتحدث فمنذُ الصغر كنت أحلم بأن أصبح طبيبة ، حتى والداي كانا يشجعانني على هذه المهنة، فعندما يقول والدي : هذه هي دكتورة فاطمة بنتي … هكذا رسخ هذا الاسم في ذهني و أصبحت أحبه يوما بعد يوم .
مر زمن المدرسة و الثانوية و الجامعة.والخط عندي واضح . فعندما يسألني أي شخص ماذا ستكونين في المستقبل أنطلق بلا تردد لأجد نفسي قائلة: سوف أكون دكتورة .
كنت أرى الممرضات في الحي، أو في المشفى، فأحببتهن أكثر .
أحببت مهنتهن، و زيهن الرسمي، و لطافتهن ، و عملهن المتفاني . لكن كنت أكرههن عندما يعطينني الإبرة؛ أجدهن أشرس الناس على الكوكب ، و أقول: لماذا يسموهن ملائكة الرحمة و هن بهذه القساوة، و هذا فقط لخوفي من الحقن .
أحببت مهنة التمريض يوماً بعد يوم، فتسهلت أموري، و اقتربت نحو حلمي، فدخلت الجامعة، واخترت كلية التمريض، كانت أول رغباتي التي كتبتها، تم القبول فيها عبر الوزارة فقبلتها بلا تررد .
تخرجت، و قضيت الخدمة، و رغم صعوبة التجربة و عملها الشاق أجدها أفضل أيام حياتي .
في الخدمة لا يوجد أي مرتبات ولا حوافز و بعضهم يقول : توجد مرتبات لكن لا نعلم أين تذهب نسبة لظروف البلد التي أعيش فيها و المسؤولين الماكرين . لكنني لم أطالب أي مبلغ ولم أنشغل بهذه الأمور فوالدي – حفظه الله- لم يحوجني أبدا والحمد لله .
كنت أحب المشفي التي أعمل فيها، و أحب مرضاها .
كنت أعمل من أجل المرضى ، و إسعادهم و شفائهم .
مهنة التمريض إنسانية في المقام الأول و الجوانب المادية تأتي في المرتبة الثانية .
في الخدمة كان لزاماً علينا أن نمر بأربعة أقسام؛ وهي الباطنية، و الجراحة، و الأطفال، و النساء و الولادة .
نذهب في الأقسام على حسب اختيار المسؤلين منا وتزداد الخبرة لدينا في كل قسم ..
كنت متشوقة جدا لأذهب إلى قسم الجراحة و لا أكاد أنتظر لأتم باقي الأقسام .
كان الله يعرف مدى حبي لهذا القسم و شغفي لأكون فيه فحظيت بوظيفة في مستشفى آخر كبير ورسمي وراقي .
هذه فرصة نادراً ما تحصل إذ لا تتوظف الممرضات إلا بعد إنتهاء الخدمة . كانت هذه مشيئة الله فمن أنا لأعارضها ؟ بل سررت بفضل الله علي . ذهبت إلى المشفى فاختاروني للعمل في قسم جراحة القلب المفتوح .
يا إلهي !
كان هذا أكبر أحلامي ، و في أكبر أحلامي هذا أكبرها .
قلب مفتوح فجأة كدا !.
لم أكن أعرف أي أحد ولا خبرة لي كبيرة في العمل فمهارتي كانت محدودة في الفراشات و دربات الأطفال .و القيام بمهنة التمريض في بعض الأقسام البعيدة عن الجراحة الخطيرة .
لكني مطمئنة واثقة بأن المهنة تنمو وتتطور من خلال الممارسة وبصحبة الأطباء المهرة ..
تلقيت رفضاً كبيراً من أشخاص في القسم لا يحبون لي النجاح والنمو في المهنة وبرروا رفضهم بأني صغيرة السن، و حديثة التخرج ،وقليلة الخبرة .( وقديما كان في الناس الحسد ) والحقيقة أنهم أرادوا أن يبعدوني من باب الاحتكار المهني السيء ، هكذا فهمت موقفهم السلبي ضدي ..وقد عزز قناعتي آراء بعض الصديقات عرفتهن لاحقا تعرضن لمعيقات حاسدة مثلي .
لكني مع الأيام أثبت جدارتي بهذه المهنة حتى حظيت بثقة اهل الاختصاص .ولا يشهد لصالحك أفضل من نجاحك في إجادة العمل المهني.
كان المرضى يأتون إلينا بعد انتهاء عملياتهم فوراً مخدرين غير حاسين بشئ يجري من حولهم .
ومهمتنا العناية بهم إلى أن يتعافوا ، يمضي ما يقارب أربعة ايام أو أكثر حسب استجابتهم للعلاج والعافية درجات .
لم أشك ، و لم أكِل، و لم أمل ، عملت بكل حب و تعاطف مع المرضى.
وأذكر اني في جلسة من الجلسات مع الطاقم تساءلت كيف تبدو هي غرفة العمليات التي يأتي منها كل هؤلاء المرضى فرد أحدهم : ليه تسألي؟ خشي شوفيها بنفسك .
لم أكد أصدق أننا مسموح لنا الدخول ، لأن الإجراء المعتاد أن هذه الفرصة تتم وفق ترتيبات كثيرة واشتراطات.
تحمست لليوم التالي ، و جئت جاهزة منذ الصباح الباكر . فدخلت غرفة العمليات .
كان هذا أكبر من تخيلاتي بكثير .
حكو ا لي كيف تكون العملية بالتفصيل لكنني شاهدتها لأول مرة
كانت جيدة. و كانت سيئة ! كنت أصغر واحدة في الفريق و بالكاد ارى جسد المريض الذي يتحلق حوله الاطباء . واقفة في مكاني مذهولة بما أرى . أحببت الآلات ، أحببت الماكينات، وأحببت الجراحين، أحببت القلب و هو بيد الجراح؛ يمسكه ، و يتحكم فيه كلعبة في يده ، واتساءل في نفسي : أوَ لا يدري الطبيب أن في هذا القلب روح الإنسان الممد أمامه ؟ أولا يدري أن شريان صغير إذا قطعه، أو أي خطأ صغير ارتكبه ممكن ان يودي بحياة المريض؟
يا لقوة قلوب الاطباء و شجاعتهم كانوا مع بعضهم يتحدثون ، يضحكون ، و يتسامرون أثناء العملية، و أنا في عالم موازي مذهولة مرة، و مستنكرة، و خائفة مرة أخري.
انتهت العملية بسلام، دامت ست ساعات بتخدير كلي يدوم لاثنتي عشرة ساعة؛ يتوقف تدريجياً .رافقت المريض إلى العناية الخاصة بنا ، و جلست أراقبه إلى أن استيقظ ، و أنا أتوقع العكس مستصحبة كل الذي حصل له في الداخل؛ من قلب مخيط ، و مغروز ، أو شق في القفص الصدري للوصول إلى هذا القلب ، أو الأنابيب الخارجة من صدره .
استيقظ مريضي بسلام، و لم أغيب نظري عنه ولا لحظة رافة به ورحمة ، وهو صغر السن، كان في عمر السادسة عشرة تقريباً لأنني أدركت خطورة الذي جرى له في الداخل .
التجربة شجعتني على الحضور المتكرر ،
فتتابع دخولي في إجراء العمليات، و عزمت على أن أكون ممرض عمليات ( نيرس سكراب) عمليات القلب تحديداً و حددتها هدفاً لي .
واجهت كل التحديات و الصعوبات من ضغط ، و سهر . إذ كان من العادي أن تبدأ نوبة العمل من الساعة السابعة صباحا و تنتهي اليوم التالي في السابعة صباحا. و لا يرف لنا جفن ، أو نأخذ راحة .
مساء يوم هادئ قالوا لي أن المناوبة الجاية ستكون صعبة لقلة الطاقم و كثرة المرضى فرحبت بها ، و قلت: إن شاءالله سوف ننجز المهمة .
في صباح هذه المهمة الصعبة وانا أتجهز للذهاب شاءت الاقدار فحالت دون تنفيذ خططنا . ماشاء الله كان لا ما شئنا .جاءت الظروف والحروب ….
في غضون ساعات و دقائق قليلة
تم تدمير البلد ، تم تدمير المشفى ، تم تدمير غرفة العمليات .
تم تدمير حلمي .
عدد المستشفيات المختصة بهذا التخصص قليلة جدا و تم تدميرها جميعها .
و ها أنا الأن في مشفى قروي يختلف كليا عما عملت فيها من بيئة راقية
الامراض هنا مهما تنوعت يشهد الفحص أنها ملاريا أو التهابات..!! والتجارب يمضي بالطبيب والمريض حتى تتنوع الأدوية ..كلما طال غياب العافية تغيرت الأدوية .
يراودني اليأس كل مرة فأدعو الله من كل قلبي أن تتحسن أحوال بلادنا و تعود مستشفياتنا و يتبدل واقعنا إلى الأفضل .اللهم الطف بالبلاد والعباد ، وأمن الروعات .و ارفع البلاء ورد العافية إلى السودان الحبيب.