مقالات وآراء

عندما يستعفي الضحيةُ الجاني .. أفورقي والمعارضة مثالاً

أ.د. جلال الدين محمد صالح

قرأت فيما قرأت أن منقبي الآثار الفرعونية، عثروا على قصة تروي حالة ثري من أثرياء مصر القديمة، جنى عليه فرعون زمانه بتجريده من كل ممتلكاته، ثم ببتر يده ورجله من خلاف، وسمل إحدى عينيه، وقطع إحدى أذنيه، وجدع أنفه، والإلقاء به في الشارع مشوهًا ينزف دمه.

وعلى هذه الحالة شاهده طبيب القصر الفرعوني، فعطف عليه وعالجه.

ولما مات هذا الفرعون الظالم القاسي، خرج أهل مصر جميعهم عن بكرة أبيهم يبكونه حزنًا، بالرغم مما سامهم به من سوء العذاب والاستعباد.

وفيهم هذا الرجل نفسه، جاء يصيح راكبًا حماره بصورته المشوهة، فلما رآه الطبيب الذي عالجه تعجب من صنيعه هذا، وسأله مندهشًا:

حتى أنت تبكيه وقد فعل بك ما فعل ؟!.

فقال الضحية: أنا من كان المخطئ المذنب، والفرعون هو المحق فيما فعله بي، واليوم أدركت هذه الحقيقة، وأنا حزين على رحيله. وفيما يشبه هذه القصة، ولها صلة بعنوان مقالنا هذا، يُحكى أيضًا فيما يُحكى أن ثعبانًا سقط  في البئر، فامتدت إليه يد رجل لينقذه، فما كان منه إلا أن لدغه.

وسحب الرجل يده متوجعًا ليعالجها، ثم سرعان ما عاد ثانية ليلقي بعصاه إلى الثعبان، حتى ينتشله، وقد فعل.

وسأله سائل: لماذا أنقذت ثعبانًا لدغك؟.

فقال الرجل: من طبع الثعابين اللدغ، لكن من طبع الإنسان الرحمة، فلماذا أغير طبعي لمجرد أن الثعابين تلدغ، فأنا إنسان؟.

وكلتا الصورتين تبينان لنا أن الضحية نتيجة عوامل ذاتية تنتابه لأمر ما، قد يرى في من

جنى عليه حُسنا لا قُبحا، على خلاف السوء الذي جُبل عليه.

ومهما كانت التحليلات النفسية لمثل هذه التصرفات، فإنها – لا محالة – غير مقبولة، وغير منطقية ولا عقلانية، إذا ما حللت وفق شروط التعاطي السياسي.

ولابد أن تثير الاستغراب، وتبعث الحيرة والاشمئزاز، ولاسيما عندما يكون من صدرت عنه سياسيًا عارفًا بمكائد السياسة، وخبيرًا بحقيقة وطبيعة نفسية من يتعاطى معه السياسة، وبتاريخه الجنائي، وسجله الإجرامي في تعامله مع ضحاياه ! .

وهذا الاستغراب والاشمئزاز هو ما يفترض أن يحدث مع ما نشاهده اليوم من تحولات في ميدان التعاطي مع أقطاب الصراع السياسي المتقاتلين، في إرتريا، وإثيوبيا: أفورقي، أبي أحمد، التجراي، لا لأنه في المتغيرات، وإنما لأنه في الثوابت. وقد لا يُفاجأ المتابع الارتري الحصيف، بما يشاهده حالياً من اقتتال بين هؤلاء الأقطاب؛ لما له عنهم من خلفية يختزنها في ذاكرته، ولكن ربما فُوجئ بما تشهده ساحة المعارضة الارترية، من تشتت في انحيازاتها، وارتباك في سياساتها، وتبدل  في مواقفها، إلى حد الخلط بين ما هو مبدئي وتيكتيكي ( تخطيطي ) إذ خرجت من بين صفوفها أصوات بلغ بها التحول إلى أقصى نقيض ما كانت عليه، حين تجاهلت فظائع طالما ظلت تندد بها وتدينها، من جرائم  ارتكبها هذا الدكتاتور الذي باتت تناشده اليوم بحرارة، وبلغة الرقة والمواطنة، وكأنه رائدها وحامي حماها، غير آبهة بما تجاوزه في حقها وحق شعبها ووطنها، فما طبيعة هذه التحولات إذن؟ وهل هي من نوع التحولات المبدئية أم التيكتيكية؟.

وعلى أي نحو فهمت وفسرت، فليس نحن من يبت فيها القول، وإنما من نظر لها وصدرها إلى

الشارع السياسي العام.ومع ذلك، فإن من حقنا الاستغراب مما جاء فيها من توسلات إلى الجاني، بعبارات الاستدرار العاطفي، تسأله إصدار عفو عام عن معارضيه في الداخل والخارج، حتى يرصوا الصفوف من خلفه في مجابهة التجراي ومعهم صكوك العفو والغفران، والتوبة تجب ما قبلها، وكأن هؤلاء المعارضين يصدق عليهم ما كان ينعتهم به أفورقي من أوصاف العمالة، يوم اتخذوا من أديس أبابا مقرهم.

وبهذا هم من جنوا في حق هذا الوطن، وهذا المواطن، وليس المستبد نفسه، وكأنه هو من يملك حق العفو والغفران، وليس من جنى عليهم؛ لأنهم عارضوه ! .

وإن تعجب فعجب قولهم هذا، ولكن أليس في هذا الخطاب انتحار سياسي، وقفزة إلى المجهول، أو انحدار إلى الهاوية؟!.

وما أظنه مقبولًا بمعايير المنطق العقلاني عند التعامل مع الثعابين السامة.  ومن ذاك الذي يلقي عقله، فيصدق أن ليس اللدغ السام من طبع أفورقي؟!.

وهو ما يُفقد هذا التحول في الخطاب السياسي جديته وعمقه في قراءة الأحداث، ومآلات المواقف الارتجالية غير المدروسة، ومن ثم يجرده من الواقعية العقلانية كليًا.

ويستحيل أن ينفعل به، ويتفاعل معه من له أدنى معرفة وإلمام بتاريخ الصراع الارتري الارتري، والاثيوبي الارتري. وذلك أن قواعد اللعبة التي تنبثق عن قوانين هذا الصراع وتبني عليه مسلماتها، لا تقبل بالضرورة إلا قوانين حلبة المصارعة، أو الملاكمة، الحذر والحيطة، وكامل الاستعداد، وغالبًا ما تحسم بالضربة القاضية، وهو ما يحسنه أفورقي ويجيده في صراعه مع معارضيه، في عهد الثورة ثم عهد الدولة، فكل ضرباته كانت قاضية، لا تبقي ولا تذر، وهو ما ينتهجه أيضًا على مستوى ىصراعات المنطقة.

والذين يمدون إليه يد المصافحة، إنما يمدونها إلى الثعبان ليلدغها.

وكم هو غريب وعجيب أن يفعلوا ذلك وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

وأن يخاطبوه بالسيد الرئيس، بعد أن كانوا ينعتونه بالدكتاتور الغاشم، ويسألونه العفو العام، بعد أن كانوا يقاضونه إلى منصات ومنظمات حقوق الإنسان، في المحافل الدولية، ثم  يسألوننا مجاراتهم والمضي معهم في خيارهم هذا ! .

وأليس الأمر حري بالتساؤل:  ما هذا الذي يحدث؟ وهل قواعد اللعبة السياسية الناضجة تسمح بمثل هذه التحولات الجذرية؟ أم أن السياسة نفسها على درجة من الميوعة والسيولة، بحيث يمكن أن تذوب معها الحدود الفاصلة بين الثوابت والمتغيرات في العمل المعارض وغير المعارض؟.

ولقد رأيت ذلك من قبل فيما يمكن أن أسميه المتحور ( الحمداني ) حيث لعق مفرزه حمدان كل ما كان يكتبه في صحيفته ( صوت إرتريا ) عن أفورقي من أوصاف الإدانة؛ ليهرول إلى أسمرى، بالحجة نفسها، (الوطن على خطر من التجراي) وليدين منها في الوقت نفسه هؤلاء الذين يستعطفون أفورقي اليوم، وينادونه بالسيد الرئيس، يوم كانوا يعارضونه من أديس أبابا.

فهل أصاب المتحور الحمداني معسكر المعارضة؟.

ولا أدري بالضبط ولكني في حيرة مما أرى وأسمع .  

والراضون بالسير على سكة هذا الخطاب، فوق أنهم ضحوا بالقيم الأخلاقية لمعنى المعارضة ومفهومها، أباحوا لأنفسهم تجاهل وتناسي كل ما يعرفونه من جرائم اقترفها الدكتاتور، لا تنتهي بالتقادم، ولا تنتفي بالتنازل؛ لأن بعضها  جرائم ضد الإنسانية وهي من الحق العام.

فبأي منطق إذن يحدث هذا؟.

وليس لهم من منطق يحاجون به فيما أحسب سوى أن الوطن على حافة الخطر، وأن الواقعية السياسية تفرض عليهم الاصطفاف خلف أفورقي ومخاطبته بالسيد الرئيس ! .

وإذا كانوا أحرارًا فيما يفكرون به ويتصرفون، ولهم كامل الحق في ذلك، فإن من حقنا أيضًا أن نكشف اللامنطق في هذا المنطق، واللاواقعية في هذه الواقعية التي يجادلوننا بها، وأن نبين لهم أنهم عاطفيون أكثر منهم عقلانيون، وليس لواقعيتهم هذه أدنى قدر من الواقعية العقلانية، ولا لمنطقهم هذا أدنى منطق من المحاجة المنطقية، إذ ليس لهم من ضمانات نجاح واقعيتهم هذه، ما يثبتون به جديتها. وإلا عليهم أن ينفوا ذلك ببيان ضمانات ومواثيق نجاحها؟.

ولكن من ذاك الذي يطمئن لهذه الضمانات إذا كان مالكها ومعطيها هو إسياس أفورقي؟.

وإذا كان ثمة شيء تمليه الواقعية العقلانية، فإنما هو نبذ هذا الخطاب والتخلي عنه، وتنوير الجماهير بأخطاره المتعددة، وتحذيرها من أن تنساق خلفه، وتنخدع به، مهما أجج مشاعرها الوطنية، مشددة على المطالبة بحقوقها الدستورية.

وبموجب هذه الواقعية العقلانية ومنطقها السوي في المطالبة بحق المواطنة، ينبغي ويتطلب عدم توظيف هذه الحرب في غسل جرائم المجرم أيا كان، وزحزحة الشعب عن مواقفه المبدئية، وعدم حمل الضحية على التنازل عن حقه القانوني والوطني في الاقتصاص ممن جنى عليه.

وبعد أن تضع الحرب أوزارها على نحو ما، هنالك تكون المساءلة والمحاسبة، ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

وعلى الارتريين كافة استثمار هذه الحرب ليس في استعطاف إسياس، واستجدائه بإصدار العفو العام، كما يفعل هؤلاء، وإنما في إحصاء تجاوزاته المجحفة بحقهم، ثم في الترتيب لعقد مؤتمر مصالحة وطنية شاملة، من أجل إرساء قوائم وحدة وطنية متينة، واستئناف حياة سياسية عادلة، لاشيوفينية فيها، في ظل نظام سياسي توافقي، تتأسس عليه دولة المواطنة بمؤسساتها الدستورية.

وإلى ذلكم الحين يبقى إسياس أفورقي متهمًا بتجاوز الدستور وتعطيله عن العمل، وليس هو مصدر العفو العام بأي حال من الأحوال؛ لأن الخارج على الدستور لا يمكن أن يكون محل ثقة المواطن في حفظ حرمة الدستور.

وهذا الخروج على الدستور من أفورقي هو أساس ومنبع كل الجنايات التي اقترفها في حق الوطن والمواطنة، من عام 1994 م، حتى يومنا هذا، بالرغم من تحفظنا على الطريقة التي تم بها إخراج الدستور المعتقل.

وبمقتضى نصوص هذا الدستور، يحق للشعب تقديمه إلى العدالة الناجزة، حتى تقول فيه كلمتها النافذة، بالإدانة أو البراءة، حيا أو ميتا.

عندما يستعفي الضحيةُ الجاني .. أفورقي والمعارضة مثالاً

أ.د. جلال الدين محمد صالح

تقييم المستخدمون: 3.57 ( 3 أصوات)

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى