مقالات وآراء

مشاركة أ. د.جلال الدين في تقييم كتاب : الطائفية في أرتريا

أ.د.جلال الدين : الكتاب رمى الحجر في الماء الراكد

الطائفية في إرتريا .. أتحتضن النظام أم النظام يستغلها

هذا السؤال هو عنوان المشكلة التي اقتحم الدكتور محمد حالفا عقبتها، مشكلة الطائفية في المجتمع الإرتري، بكل أبعادها الضارة.

وأمكنني الاطلاع على ما جمع من مادة علمية، وعلى ما وصل إليه من نتائج، وما خط من توصيات.

وقد التزم فيها المنهج الوصفي في البحث العلمي، مستقرءا المادة في مظانها، ومحللاً.

الطائفية بين الذم والمدح

  ومع ما أبديته من وجهة نظر هي محل الأخذ والرد، وما اقترحت عليه من خطة بديلة لما سار عليه، ويتوقف الأخذ بها في نهاية المطاف لقناعة الكاتب، لابد أن :

أؤكد أنها مادة علمية في غاية الأهمية، من حيث ما تضمنته من مفاهيم  ومصطلحات، ألف بينها الدكتور حالفا  في هذا السفر ، وعالج من خلالها تعقيدات الطائفية في المجتمع الارتري.

ولا يخفى على أحد خطورة الطائفية على المجتمعات الإنسانية إذا ما وظفت في الاتجاه الخاطئ، فذاكرة التاريخ المتوسط تختزن ما كان يتبعه الأباطرة الأكسوميون في الحبشة من سياسات الإكراه على العقيدة الأرثذوكسية، ليس على المسلمين فحسب، وإنما أيضا على الوثنيين والكاثوليك.

وكانت مثل هذه السياسات من وراء الحرب التي خاضها القائد العسكري الصومالي أحمد جري الملقب بالأشول ضد الملك الأكسومي لبنا دنجل، والذي استنجد بالبرتغاليين، وهو ما أدى إلى تدخل العثمانيين لحماية الحرمين.

ونكون ساذجين جدًا إذا ما تصورنا أن الطائفية في واقعنا المعاصر تمارس على النحو الذي مارسها به الأباطرة الأكسوميون من الإكراه على تعليق الصليب، وتغيير الأسماء، كلا، إن لها أساليبها الناعمة والخاصة، من نحو محاصرة المخالف في الدين عن أي اتصال بامتداداته العقيدية، وحظر الكتاب الديني، والكتب الفكرية المتعلقة بهذا الدين أو ذاك،  فهذا في حد ذاته نهج طائفي، مهما تدثر بمكافحة الإرهاب أو حماية الوحدة الوطنية ومصلحتها مما عرف بالإسلام السياسي، بل الانحياز نحو العلمانية المتطرفة في موقفها من الدين، يعني توظيفًا لها في غايات طائفية. 

وأما ذاكرة التاريخ    القريب فما نسيت تلك الحرب المجنونة التي وحلت فيها الشعوب السلافية في أوروبا الشرقية، عقب تفكك يوغسلافيا، بين المسلمين البوسنة، والكروات الكاثوليك، والصرب الأرثذوكس، وارتكبت فيها جرائم ضد الإنسانية، كذلك حرب الطوائف اللبنانية، المسيحية، والمسلمة، وها هي سوريا تدمرت كليًا بسبب الحرب الطائفية التي هجرت شعبها .

وهنا تبرز أهمية تناول الموضوع بهذا التحليل من الدكتور محمد حالفا، فهو يسهم ضمن إسهامات الآخرين في كشف مكامن هذا الداء، وخطورة من يستغله في تحقيق طموحاته؛ ذلك أن بعض الساسة لا يتورعون أبدًا من أن يصلوا إلى طموحاتهم بشتى السبل، بما في ذلك سبيل الطائفية، فهم مكيافيليون في هذا، لا ربانيون أخلاقيون، الغاية عندهم تبرر الوسيلة.

والساحة الارترية ما زالت تعاني حتى اللحظة من توظيف الطائفية، فهي من أضاع وجود الكيان الارتري خلال فترة تقرير المصير، حين ألزمت الكنيسة الأرثذوكسية الارترية اتباعها بالتصويت لصالح الانضمام إلى إثيوبيا، وإلا حرمتهم  الغفران، وألحقت بهم لعائنها.

واستحضار التاريخ على هذا النحو إنما هو للاستفادة من أخطائه، والتنبيه إلى مساوئه حتى لا يتكرر ثانية.

ولا أحد يماري في أن الطائفية داء لا يمكن القضاء عليه كليًا، إلا أن الحوار العلمي الجاد هو وحده من يساعد في توعية المجتمع بخطورتها، وهو ما يفترض من النخبة الارترية فعله.

وأحسب أن ما كتبه الدكتور محمد حالفا يصب في هذا المصب، فما أظنه انبرى لهذه المهمة من أجل تعميق الجرح، وإنما من أجل معالجته، ولا سيما أن الحرب الجارية في إثيوبيا حاليًا بين الأمهرى والتجراي أثارت النزعات الطائفية والعرقية، والقومية، إذ خرجت تصريحات متطرفة من مجموعات متطرفة، تهدد المسلمين في إرتريا بالسحق والإبادة، متهمة إياهم بالعدوان على مقدساتها الدينية، وأعراضها، من بعد دخول الجيش الإرتري أكسوم ضمن التحالفات التي تأسست مؤخرا بين إرتريا بقيادة أفورقي، وإثيوبيا بقيادة الدكتور أبي أحمد.

ولا يمكن لهذه الأصوات أن تكون عامل بناء واستقرار في المنطقة؛ ذلك أن سكانها من المسلمين والمسيحيين إن لم يفكروا بعقلانية بعيدًا عن التفاعل مع هذه الأصوات الطائفية فسيجلبون على أنفسهم الويلات ومزيد الدمار .

واليوم الإعلام أخذ ينقل إلينا بعض الأعمال الطائفية المستفزة، لا ندري مدى صحتها، ولكنها متداولة، تمثلت في حرق مصاحف قرآنية من قوات التجراي المتقاتلة مع العفر المسلمين، وكل ذلك إن حدث فإنه نذير شؤم يدفع بالمنطقة إلى حرب طائفية مدمرة، يشعلها الساسة المكيافيليون من أجل تصفية حساباتهم الخاصة.

ولا ننسى أن تنديدنا بالطائفية لا يعني رفضنا للحقوق المكفولة قانونًا لكل طائفة في الوطن الواحد، والمنصوص عليها في المواثيق الدولية.     

ومع أن نظام أفورقي في أسمرا لا علاقة له بالدين، ولا يمثل الكنيسة الارترية، فإن سياساته المكيافيلية باتت تفوح منها رائحة الطائفية ضد المسلمين، ليس خدمة للمسيحية، وإنما لمجرد كره الثقافة الإسلامية والحجر عليها.

ونعم أن حبر الكنيسة الارثذوكسية الأعظم – ( ظل قيد الإقامة الجبرية قبل وفاته ) – ، ولكن ما لحق بالمسلمين من الاخفاء القسري لشيوخهم ومعلمي معاهدهم الدينية يعد أعظم انتهاك تشهده حقوق المواطنة، وليس له من باعث غير الباعث الطائفي من النظام.

ومثل هذه الأعمال الإجرامية جديرة بالإدانة من كل الأطراف سواء تضرر منها المسلمون أو المسيحيون.

ويخطئ جدًا أولئك الذين يظنون أنها تخدم طائفة بعينها أو عقيدة بذاتها، إنها آفة فتاكة

بالجميع.

ولهذا أقول:

إن الدكتور حالفا بتناوله لهذه القضية على هذا الوضوح والصراحة أراه يلقي الحجر على المياه الراكدة، أو يدق ناقوس الخطر، ويستفز كل العقول الوطنية الغيورة والمخلصة أن تخوض في النقاش بروح إصلاحية نقدية. وقد ختم عمله هذا بتوصيات تستحق أن تكون مادة محاورة بين النخبة الأكاديمية والسياسية، ولكنه في التوصية الأولى قصر مطالبته بالاعتراف على المسيحية والإسلام بينما من حق الأديان الوثنية الاعتراف بها مهما كان حجمها.

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى