تقارير

مشاهد من أرتريا .. معاناة وطن تهدد بالهجرة الجماعية**

وطن لا يحكمه دستور بل الهوى ، ولا صوت للقضاء فيه بل للعسكر ، وتمتهن حكومته الشغب الدائم ، وتحتكر مقدرات الاقتصاد الهش لصالح الحرب، وتقوية أجهزة الأمن دون مراعاة لحاجة المواطنين، وتدعوها حاجتها للبقاء الأطول إلى قمع معارضيها بقسوة ؛ وإن كانوا من بررة أبنائها مدنيين وعساكر. فكيف تعيشين أنت يا أرتريا  ؟

وكالة زاجل الإرترية  للأنباء (   ZENA) تجولت في أرتريا لتقف على أحوال البلاد وهذه مشاهد ناطقة يستعرضها التقرير التالي :

المشهد الأول – فقر وألم

في تقرير لمنظمة دولية مهنية جاءت أرتريا  رقم 182 من 185 دولة يقيمها التقرير،  أتى بعدها ثلاث دول أفريقية هي: الكونغو 183 ، وتشاد 184، وأفريقيا الوسطى 185 ، من حيث (ممارسة أنشطة  الأعمال) الذي يعده سنوياً البنك الدولي لقياس مؤشر النمو الاقتصادي في كل دولة والتقرير أعطى لأرتريا ( صفرًا) من مائة درجة خلال العامين 2012- 2013م بناء على أنها لم تشهد تبدلاً إيجابياً لأحوالها .

هذا واقع إرتريا في نظر المنظمات الدولية وحدث ولا حرج عما يعانيه شعبها من مرارة الفقر – متوسط دخل الفرد سنويًا لا يتجاوز: 400 دولار – وسوء السلطة والظروف الطاردة ولهذا كان غير منكور ما يشاهد فيها من السلوك المشين كظاهرة الدعارة المرخصة وتجارة الخمور ا لمرعية من السلطان، وكتفشي السرقة وتفكك الأسر لغياب الأزواج قسراً وكتسرب الطلاب من التعليم مما يشكل ظاهرة البطالة والجهل والتهتك الاجتماعي والإجرام المنظم والتنافر الشديد بين الحاكم والمحكوم.

 والفقر دفع إلى نمو عادات دخيلة كظاهرة التسول في المساجد  بسبب ما يقاسيه السكان ولهذا تجد من المعتاد جداً أعدادا ً من المتسولين بصورة مزعجة تقف أمام المساجد تمد أيديها إلى المصلين تلتمس رزقاً يسخون به إليها وهم في أحب البقاع إلى الله وقلوبهم  حديثة عهد بربها والسواد الأعظم من فئة المتسولين هم النساء اللائي غاب عنهن الرجال في ظروف التجنيد القسري أو الموت في الحرب أو  الهجرة إلى الخارج أو غاب عنهن دور الولي بالعجز المقعد وهن لا يجدنا عملا ً غير التسول الذي يقبلن إليه مرغمات استجابة لحاجة المعيشة وأبرز موقعين في العاصمة  لوجود هذه الظاهرة  هما مسجد الخلفاء الراشدين ومسجد الشيخ عبد القادر الجيلاني إلى جانب مساجد أخرى في الأقاليم يقف في أبوابها المتسولون مثل المسجد الكبير بمدينة كرن والمسجد الكبير بمدينة تسني فمن المألوف أن تسمع – عقب الصلوات الخمس – أصوات المتسولين يطلبون الإنفاق عليهم بإلحاح شديد وإنكسار أليم.

المشهد الثاني-  الهجرة الجماعية :

استجابة للظروف السياسية الطاردة تجد من المألوف الهجرة الجماعية للسكان نحو إثيوبيا والسودان وهي هجرة مختلفة عن الهجرة الفردية السابقة وأخطر منها لكونها تفرغ الوطن من كل أمل في العودة حيث تغادر الأسر بكل ما تمتلك من ماشية وممتلكات منقولة خاصة بها تعبر بها الحدود بنية الاستقرار هناك  وتستفيد من التداخل القبلي وحركة التنقل المعتاد وبموجب هذا هاجرت كثير من الأسر إلى إثيوبيا على امتداد الحدود بين البلدين وإلى السودان كذلك  وهما بلدان لا يمانعان من إضافة سكانية جديدة تمنحهما كسباً سياسياً واقتصاديا.ولاتزال الحكومة الأرترية متضايقة من هذه الهجرة  وتجتهد على قمعها دون جدوى لكونها تتسرب بطرق ملتوية  بعيدة عن عين الحكومة  وأحدث إجراء قامت به الحكومة الأرترية ضد الهجرة الجماعية قيامها-  بداية الاسبوع الأخير من شهر سبتمبر الماضي –  بحملة عنيفة على الرعاة في الحدود الأرترية مع ولاية كسلا السودانية  إذ فرضت عليهم عدم الرعي في الحدود والابتعاد عنها إلى العمق الأرتري خوفاً من هذه الهجرة الجماعية وإن كان بعض الجهات الأمنية الأرترية المعارضة ينسب هذا الإجراء الإرتري إلى رغبة الحكومة لتنفيذ عمل سري يتطلب إبعاد المواطنين عن  المنطقة حتى لا يتعرض للكشف مثل تجارة الحدود بمواد محرمة أو القيام بأنشطة معادية للسودان أو دفن ضحايا إعدامات الخصوم وهو احتمال وارد لكنه غير نافي أن يكون محاولة تفريغ المواطنين من الحدود إجراءاً تقوم به السلطات الأرترية للحيلولة دون هجرتهم هجرة جماعية وبماشيتهم وأموالهم المنقولة.

ومشهد الهجرة الجماعية إلى إثيوبيا حدث جديد أنشأ قرى مستقرة على الحدود الأرترية الإثيوبية وكانت العادة أن هؤلاء  الرعاة كانوا سابقا يتتبعون مواسم الأمطار والعشب الأخضر بماشيتهم  وكان هذا يسوقهم مرة نحو إثيوبيا وعودة إلى إرتريا في الموسم المناسب أما الآن فقد استقر  بهم المقام في قرى جماعية جديدة أنشاوها في الجانب الإثيوبي من  الحدود هرباً من سلطة بلادهم.

المشهد الثالث – مصادرة الممتلكات :

ينتشر الخوف لدى الأسر المهاجرة هجرة جماعية أن تعاقبها الحكومة بمصادرة ممتلكاتها من أراضي زراعية وغيرها.. كما حصل ذلك للمواطن أحمد بورلي الذي هاجر إلى إثيوبيا بأسرته وبماله المنقول فقد تم تحويل منزله الذي يضم سكناً ودكاناً ومقهًى في قرية (حوطيت) إلى مكاتب ومقار حكومية ويخشى أن تطال هذه المصادرات كل المواطنين المهاجرين هجرة جماعية ولهذا تلجأ الأسر إلى تقسيط أعضائها بين مهاجر-من فئة الشباب- ينجو من سطوة النظام ومقيم- من فئة كبار السن- يحمي الممتلكات الخاصة بالأسرة ويديرها .

المشهد الرابع – المنافذ  التجارية

تقع مدينة ( تسني ) على الحدود بين إرتريا والسودان تقابلها مدينة كسلا  وحياة كل منهما على حياة الأخرى إذ ليس لولاية كسلا موارد اقتصادية مغنية غير ما يتصل بمدينة تسني الأرترية ولهذا يتضايق السودان من كل بضاعة تهربت إلى  أرتريا لكونها تحلب المواد الضرورية المخصصة لكسلا الأمر الذي يساعد في ارتفاع الأسعاروندرة البضاعة وإن كان الاقتصاد الأرتري يجد في كسلا رئة يتنفس بها لأنها تعد الميناء الحقيقي الآن – بعد اختفاء مصوع نتيجة الحصار – لاستيراد المواد الغذائية لأرتريا بصورة رسمية أو بصورة تهريب غير مشروع  وعلى سبيل المثال نجد المواد السودانية المصدرة إلى أرتريا والأكثر رواجاً هي  الذرة والمشروبات الغازية والعصائر والمياه  الصحية والدقيق والسكر والحليب (البدرة)  والمحروقات وقطع غيارالسيارات ولوازم البناء من اسمنت وزنك وحديد .. الخ ،  ومعظم أنواع السلع السودانية حتى الملابس والأحذية الخاصة بالأطفال والنساء

وإلى جانب تسني توجد منافذ أخرى تعبر بها السلع الخارجية إلى أرتريا فعلى الحدود مع السودان تجد مدينة ( حامدايت ) في أقصى الجنوب الغربي ومدينة ( قرورة ) على أقصى الشمال الشرقي وكل هذه المدن تعد منافذ تغذي أرتريا بأسباب المعيشة والحياة هناك في بلد يخنقه الحصار الدولي منذ عام 2009 والسياسية المحلية العوجاء.

المشهد الخامس – عبور التجارة داخل أرتريا

يتم عبور هذه السلع إلى أرتريا عبر عدد من الطرق والوسائل أهمها :

  1. فئة الشركات الحكومية ولهذا يسهل لها توصيل البضاعة إلى  أي مكان في أرتريا عبورًا وتوزيعاً دون أن تجد أي مشقة رسمية وهذه الفئة الأقل عدداً والاكثر حظوة لدى الحكومة وأشهرها شركات :البحر الأحمرلتصدير واستيراد السلع الضرورية ، همبول للأوراق المالية  ، سقن للمنشئات والمقاولات، صفر9  للتجارة ، بيشا للتعدين . إلى جانب تجار معينين تمنحهم الحكومة تسهيلات خاصة لممارسة الأنشطة التجارية فهم والشركات الرسمية يحتكرون دولاب الحياة الاقتصادية الهش دون مبالاة بما يعانيه المواطنون.
  2. فئة أخرى يمثلها الأفراد العاديون فهذه تشحن البضائع في المواصلات العادية ( صحبة راكب ) وهي معفية من الضرائب والجمارك وهو إجراء جديد وليد الأزمة الجديدة أتى بعد شدة ملاحقات رسمية كانت تتعقبه سابقاً .
  3. بعض التجار يمرر البضاعة إلى حيث يريد عبر تسليم  البضاعة إلى عربات شحن تجارية تعمل في التهريب ولهؤلاء القدرة في توصيل البضائع إلى محطاتها الأخيرة عبر طرق غير مشروعة  دون أن تتمكن من محطة العاصمة أسمرا لمحدودية الطرق الموصلة إليها والحراسة الدائمة فيها.
  4. فئة رابعة من ا لتجار تشتغل في التهريب عبر الجهات الرسمية بعد أن تمنحها رشاوي مجزية وهذا النوع من التجارة يصل إلى العاصمة أسمرا والمدن التي تشتد فيها قبضة الحكومة
  5. الجمارك بالعملة الصعبة ولهذا يفضل كثير من التجار الانفلات منها بالطرق غير المشروعة
  6. أنشط الخطوط في التجارة الفردية – صحبة راكب وما كان قريباً منه – هو :الخرطوم –  كسلا – تسني – كرن – أسمرا.

المشهد السادس – الركود الشديد:

يشكو التجار  في أرتريا من الركود الشديد  فكل بضاعة تظل ساكنة في متجرها مدة طويلة لحد ( الزهج ) وذلك بسبب ما أصاب السكان من فقر وسبب قلة القوى الشرائية لهجرة  السواد من السكان إلى خارج البلاد والحركة القليلة النشطة هي تجارة يقوم بأغلبها النساء المسيحيات والأطفال الصغار ذكورًا وإناثاً الذين هجروا المدارس استجابة لضيق المعيشة فأصبحوا فاقداً تربويا مؤلماً.

المشهد سابع – محطة الجمارك والتجارة الرسمية:

يدفع التجار الكبار الجمارك بالدولار في حدود تسني  في منطقة ( مكسرات)  وهي معبر تجاري للرشايدة  استغله التجار الآخرون وفيه خدمات للعابرين

من جهة أخرى تحد ث لـــ ( ZENA) تجار أرتريون نشطون بين مدينتي كسلا وتسني أن الحكومة الأرترية تقوم بين فترة وأخرى بحملة مكثفة تشتري فيها من السودان العملة الصعبة – عبر سماسرة التهريب – ومواد السكر والدقيق والجاز والذهب وكانت تستغل الدعم الذي كانت تقدمه حكومة السودان لهذه المواد وتوقع التجار الذين سألتهم وكالة (ZENA ) أن تضعف هذه الظاهرة بعد رفع الحكومة السودانية الدعم عن هذه السلع وذلك لارتفاع أسعارها ويضيف التجار :كانت الحكومة  الأرترية تسحب هذه المواد من السودان عبر شبكة متخصصة تشمل عملاء النظام الأرتري وجهات سودانية ذات نفوذ تتعاون معها تحقيقا لمصلحة خاصة وذكر مصدر ارتري معارض- فضل حجب اسمه – أن النشاط الأرتري التجاري المشبوه كان يستهدف عدم الاستقرار السياسي في السودان وتوقع هو كذلك أن يكون السودان قد تجاوزهذه المكايدات برفع الدعم وبناء على ذلك من المتوقع أن تصبح ظاهرة  عبور السلع السودانية إلى أرتريا حرة طليقة لكونها لا تحمل أي مخاطر على اقتصاد السودان لكنها سوف تؤدي إلى ارتفاع أسعارها في أرتريا بدرجة أعلى  من ارتفاعها في السودان.

المشهد الثامن – مواد تاتي من إثيوبيا :

على الرغم  من الحدود المتوترة رسمياً يوجد تواصل شعبي غير رسمي بين البلدين بطرق غير مشروعة يتمثل ذلك في حركة الهجرة الدائمة نحو إثيوبيا إلى جانب التواصل التجاري حيث يورد التجار الأرتريون عبر التهريب بضائع من أثيوبيا يأتي في مقدمتها  الشعير والقمح والذرة الشامية ( العفون) والبن والزنجبيل   و( الحمص ) الكبكبي  ( شيرو) والفول والبهارات  وبعض المشغولات اليدوية والمصنوعات الإثيوبية من ملابس وغيرها. تعج كل أسواق أرتريا بهذه البضائع المستوردة التي تأتي تهريباً باتفاق بين تجار إثيوبيا وتجار أرتريا وأنشط محطة تهريب هي (حامدايت ) التي تعد مثلثاً يجمع بين حدود الدول الثلاث: السودان وأرتريا وإثيوبيا وهناك محطات أخرى للتهريب تنقل  البضائع عبر الجمال والبغال والحميروالحمل الشخصي تتجاوز نقاط حرس الحدود عبر طرق جبلية وعرة غير ميسور التحكم الرسمي فيها.

المشهد التاسع – مواد من أرتريا للسودان :

تصدر أرتريا إلى السودان مواد في مواسم خاصة وبكميات ضئيلة إلى ولاية كسلا أهمها طماطم في صناديق خشبية والبطاطس والسمن البلدي والعسل البلدي والبهائم تهريباً- وهذه على مدار السنة –  إلى جانب السلاح تهريباً دعما للمعارضة السودانية تارة ودعماً لانفلاتات الأمنية  وحماية لتجارة البشر تارات أخرى إلا أن هذه التجارة قد أصابها ركود في الآونة الأخيرة  لأن المسؤولين عن التجارة التهريبية الأرتريين قد تشتت أمرهم لتغيير سياسة النظام تجاه هذه التجارة حالياً فقد هرب بعضهم وسجن بعضهم وغير بعضهم مسارأنشطة عمله غير المشروع إلى دولتي  جنوب السودان ويوغندا عقب حملة قام بها النظام الأرتري على هذه الفئة في أواخر شهر يونيو الماضي.

سطر الختام:

تشعبت مشكلات النظام الأرتري إقتصادياً بسبب الحصار الخارجي والنهج السياسي غير الرشيد وقد عجز عن حلحلتها ولهذا لجأ إلى مزوالة مهنة  التهريب وسمح للمواطنين أن يمارسوها بقدر محدود فعلى التهريب يتوقف بقاء أرتريا السلطة والشعب على قيد  الحياة الهزيلة وكان السودان المصدر الأهم لتغذية أرتريا من موارده ثم تاتي إثيوبيا وقليل من المواد ياتي من جهة البحر مهرباً من اليمن والسعودية .وما يوجد من تنافر بين السلطة والشعب فرض الهجرة الجماعية إلى دول الجوار بنية الاستقرار وهذا خطر كبير يتهدد بإفراغ الوطن من شعبه ويدعو إلى القلق من تعاظم الوضع الأرتري إلى الأسوء.

**ملاحظة :هذا التقرير نشرته زينا بتاريخ  13 / 10 / 2013م وأرادت أن تكتب تقريرًا جديداً بعد مضي أربع سنوات فكانت الصورة هي الصورة لأن يوم البلاد وأمسها سواء إلا ما استجد من قليل سيء مضاف إلى سيء قديم ضاعف الوجع .. فاكتفينا بإعادة نشره.

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى