وداع أفورقي لحليفه المسجى .. المناضل الأمين محمد سعيد
يحكي جورج بوش الأب، في كتابه المترجم بعنوان (السيرة الذاتية) أنه زار الزعيم الصيني (ماوتسونغ) في مكتبه ببكين، بمعية وزير الخارجية الشهير هنري كسنجر، وبوش يومئذ سفير الولايات المتحدة، في عهد الرئيس جيرالد فورد ( 1974 – 1977 م ).
يقول بوش: جاءنا (ماو ) متكئا على فتاتين، من شدة ما كان يعاني من حدة الروماتيزم في مفاصل رجليه.
سأله كسنجر: كيف تجد صحتك ؟.
فأجاب ماو: هذان متعبان وأشار إلى قدميه، وأما هذا فيعمل بشكل جيد وأشار إلى دماغه.
يقول بوش: ثم أخذ (ماو ) يردد اسم ( الله ) أكثر من مرة حين قال لنا: لقد تلقيت دعوة من الله، يقصد اقتراب الموت منه.
فقال له كسنجر مازحا بابتسامة ساخرة: لا تلبها.
يعني تمرد عليها، وقل لله: لا آتيك أبدا.
ولكن ( ماو ) الماركسي الملحد، استمر في كلامه الميتافيزيقي – كما يحكي بوش – وقال: إن الله لا يحبني لأنني شيوعي.
وتعجب بوش من هذا التكرار لكلمة الله من رجل ثوري ملحد، ما عرف الله في حياته.
ومضت الأيام حتى هلك ( ماو )، ولم تعد الصين بعده هي الصين في عهده.
ومِثْلُ ذلك يروي لنا بوش في الكتاب نفسه، ما شاهده في مراسم دفن جثمان برجنيف، إذ قال: تقدمت عجوز إلى جثمان برجنيف، وهو مسجى، ورسمت عليه بيدها شارة الصليب.
فسألتُ عنها: من هي ؟ فقيل لي: إنها أرملة برجنيف.
عندها قلت: إن الله ما زال حيا في الاتحاد السوفيتي بعد مضي سبعين عاما من إنكاره والتعبئة ضد وجوده.
وهكذا يعرفون الله يوم يرحلون إلى عالم ظلوا ينكرونه في حياتهم، ولكنها هي الفطرة الإيمانية تجبر ذويهم أن يذكروا الله على جثمانهم.
وهو ما يحدث أيضا عندنا نحن المسلمين في عالمنا الاسلامي، فبعض من ساستنا وزعمائنا ما عرفوا الله وما صلوا له أو صاموا، وما حجوا أو اعتمروا، ولكن عندما يرحلون، يضطر ذووهم أن يذكروا الله على جثمانهم، بإقامة صلاة الجنازة عليهم، والنظام نفسه يأمر الهيئة الدينية الرسمية بإقامتها عليه، لأهداف سياسية.
وبهذا تصبح صلاة الجنازة مجرد إجراء ظاهري، تؤدى مجاملة، وربما الميت نفسه لا يؤمن بها أصلا ولا يقيمها.
وبالضرورة ليس هذا هو الإسلام.
وما أن مات برجنيف تفكك الاتحاد السوفيتي، بمجيئ جورباتشوف.
ومعنى هذا أن الموت ليس مجرد زائر يُغَيًِبُ الأفراد، مهما بلغوا من القوة، وعمًَرُوا من السنين، وإنما أيضا يغير الأوضاع السياسية؛ لتكون على غير ما كانت عليه، ربما من السيء إلى الأحسن، وربما العكس، وربما من السيء إلى الأسوء.
ولا ندري نحن الارتريين إلى أي الخيارات يسوقنا القدر – في سلطة الماويين هؤلاء – إذا ما فاجأ الموت حاكم البلاد بعد أن خطف سكرتير الحزب؟.
ولا ندري أيضا هل هو شاعر بالدعوة التي تلقاها ( ماو ) ولم يستطع رفضها، أم أنه مصر على تجاهلها؟! .
ومن واقع ما هو جار حولنا من صراعات دموية، فإن مستقبل البلاد تحيط به الأخطار، ولا سيما أن الزعيم الماوي فشل كل الفشل في صناعة السلام، وبناء إرتريا الحديثة، وأبدع كل الإبداع في ابتكار الحروب، وخلق الأزمات تلو الإزمات، ليس على صعيد الوطن فقط وإنما على صعيد المنطقة كلها .
وها هي إرتريا اليوم أضحت طرفا في الحرب الدائرة بين الاثيوبيين.
وفي آخر لقاء تلفزيوني أجراه المناضل الراحل الأمين محمد سعيد، بشأنها، أكد أن وحدة إثيوبيا وعدم تفككها وعدم عودة التجراي إلى حكمها هو من ضرورات أهدافنا، وضمانات وحدتنا.
وهذا منطق صحيح ومقبول بالنسبة لوحدة إثيوبيا، ولكن الاثيوبيون هم وحدهم من يقرر عودة التجراي إلى الحكم، أو عدم عودتهم، ولسنا نحن.
ما يهمنا ويعنينا هو أن تحترم إثيوبيا سيادتنا، تحت حكم التجراي كانت، أم الأمهرى، كما نحترم نحن سيادتها.
نحن إرتريون وكفى، لا علاقة لنا بمشاكل إثيوبيا، تهمنا سيادتنا ووحدة بلادنا.
ولقد نسي الأمين أن السياسات التي اتبعها حليفه، إسياس أفورقي، في إدارة البلاد، ووقف هو معها وناصرها بكل قواه هي المسؤول الأول في تدمير الوحدة الإرترية وقيمها.
ونحن محبو السلام والاستقرار في المنطقة كلها، ولكن كما يهمنا السلام في إثيوبيا والمنطقة، يهمنا بدرجة أكبر السلام في وطننا إرتريا أولا، حيث ما زال مواطنونا مشردون في المعسكرات، وشبابنا وشاباتنا مجندون في ساوى، يزج بهم النظام في خنادق الموت.
والسلطة في وطننا متجرنة ومحتكرة من جهة شيفونية من التجرنة.
وليس من أحد مسؤول عن ضياع هذا السلام، وهذا الازدهار بين الإرتريين أنفسهم غير هذا النظام الذي أدار البلاد بعقلية الثأر والانتقام، وسقط الأمين ميتا وهو في آخر رحلة تضليلية ودعائية كاذبة لسياساته الكاذبة.
ولعل هذه الرحلات التضليلية التي كان المناضل الأمين يقوم بها هي التي استحضرها أفورقي في نظرته الوداعية إلى جثمان حليفه المسجى.
وهي نظرات لا تعبر بأي حال من الأحوال عن مشاعر إنسانية رقيقة، وإنما هي مجرد مراسم شكلية من مستبد فقد منذ وقت مبكر كل مقومات إنسانيته، وأظهر وحشيته المفترسة، دون أدنى حياء، يسجن كما يهوى، ويقتل كما يهوى، ويتصرف في قرارات مصيرية دون مؤسسات دستورية، فعال لما يريد، وكأنه الإله الذي لا يُسْأَلُ عما يفعل وهم يُسألون.
وهل فكر يوما بجدية في الذي سيخلفه، إذا داهمه الموت، على سريره أو مكتبه، من هو ؟ وكيف يرتب له أمر الوراثة؟ فإنه لا نائب له.
هل هذا الخالف الوارث هو ابنه من صلبه (أبرهام) أم ابنه من هؤلاء الذين صنعهم على عينه، ورباهم بعنايته، وأعطوه الولاء الكامل، وأقسموا له على متابعة طريقه؟ .
لا أحد يعلم إلا هو والذي أحياه ثم يميته ثم يحيه تارة أخرى.
وأما الآخرون ممن حوله فأرقام مهملة.
وكل ما نأمله أن لا يكون الوريث واحدا من هؤلاء، فتتعقد المسألة أكثر مما هي معقدة.
ونأمل أن لا نعيش مع واحد من هؤلاء ثلاثين عاما أخرى، باسم الحكومة المؤقتة نفسها، بذريعة تهديد التجراي.
ونأمل أن يستعيد شعبنا سيادته الحقيقية؛ ليحكم نفسه بنفسه، بعد هذه السنين العجاف من حكم الفرد.
وأيا كان المستقبل الذي ينتظر آمالنا هذه، وتوحي به تمتمات أفورقي في إنحناءته ونظراته هذه، فإن سفينته لا محالة غارقة، أحس بهذا أم لم يحس، وإن كان الخطر الأكبر حين تغرق ومعها كل الوطن بما حمل؟.
ويتناقل بعض رفاقه مقولة يقولون هو قائلها، توعد فيها إرتريا بتعليقها في ارتفاع شاهق، يصعب إنزالها منه بسهولة، حية سليمة من الانكسارات!.
ويبدو أنه قد فعل، فمستقبل البلاد يكتنفه الكثير من الغموض.
ومع حدوث أسوء التوقعات على نحو ما حدث في الصومال بعد زياد بري، وليبيا بعد القذافي، يكون رحيله شؤما على البلاد، كما كان وجوده حاكما متفردا شؤما عليها.
وهل من استراتيجية تحول دون حدوث هذا الاحتمال الأسوء المشؤوم؟.
ما أظن لهذه الاستراتيجية وجود، وهو مما يزيد من توقع احتمال كهذا، لعدم وجود شخصية قيادية قوية، لها إمكانات التحكم، وتحظى بتوافق الجميع، فالكل بين سجين، وقتيل، وفاقد الأهلية، بإعاقة حسية، كالذي حدث للجنرال سبحت إفريم، المقعد نتيجة محاولة اغتيال تتهم فيها أجهزة النظام، أو إعاقة معنوية، كالذي حدث لرمضان محمد نور، المقعد هو الآخر عن أي دور سياسي، منذ مؤتمر نقفة عام 1994 م.
وسنرى خلال الأيام القادمة من هي الشخصية التي اختارها الحاكم بأمره، خليفة لحليفه الراحل الأمين محمد سعيد، في سكرتارية هذا الحزب الصوري الشكلي، حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة؛ لتؤدي الدور التضليلي نفسه.
ويضاف إلى هذا ما تطلقه بعض قيادات التجراي من توعد بالانتقام على شكل من الأشكال؟.
ونشهد هذا التهديد والتوعد بالانتقام في لحظة حرجة من الانقسام بين الارتريين أنفسهم، في الموقف من هذه الحرب، بين فريق منحاز إلى التجراي، وفريق إلى أفورقي ونظامه، وفريق إلى إرتريا وسيادتها، بمعزل عن صراعات الأكسوميين، في إرتريا وإثيوبيا، أيهم يقود الآخر بعد هزيمته وإركاعه، ومعه الشعوب الأخرى.
وأيا كانت طبيعة هذا الانتقام، وهل يستهدف أفورقي وأنصاره، أم يتجاوزهم إلى كل الشعب الارتري، فإنه بات يُسمع بين الحين والآخر بقوة، وأصبح يثير خوف وقلق الارتريين.
وتصوروا معي حجم الكارثة التي نحن فيها، وحين يصل دكتاتور ما، ببلده إلى هذا المستوى من الانهيار، كم هي مهلكة.
وكلمة (مهلكة) هي أدق وصف أطلقه المناضل المنشق أحمد القيسي، على أجندة أفورقي، عندما نعتها بقوله: الأجندة المهلكة.
وهذه الأجندة المهلكة هي بالطبع حصيلة أيدلوجية (حزب الشعب الثوري) الذي نحت لنا هذا (الصنم) وقدمه إلينا قائدا وطنيا متجردا من كل الأطماع.
وإنها لمصيبة، إن كانوا وقتها – هؤلاء الحزبيون – على غير إدراك ووعي بما كان يحمل زعيمهم هذا من أفكار تدميرية، وتكون المصيبة أعظم إن كانوا بها واعين ولأبعادها الخطيرة مدركين، ومع ذلك تجاهلوها نتيجة صراعاتهم الداخلية، ثم كانوا هم أول ضحاياها، ومن بعدهم الشعب الارتري، وهو ما يعني أن جنايتهم على هذا الشعب المسكين لا تقل ضررا ومسؤولية عن جناية هذا الصنم المنحوت بأصابعهم.
وإلى هؤلاء الذين ما زالوا باقين منهم على قيد الحياة، أتوجه بندائي هذا طالبا منهم ما يلي:
1- الاعتذار إلى الله أولا بالتوبة إليه، ونقد الذات في علاقتهم به، فإن باب التوبة ما زال مفتوحا، وأن الله ليفرح بتوبة عبده إليه.
2- الاعتذار إلى الشعب الارتري بشكل عام، لما تسببوا له من معاناة جد كبيرة ومؤلمة بصناعة وتنصيب هذا الصنم .
3- الاعتذار إلى المسلمين بصفة خاصة، بما انتهكوه من قيمهم الدينية، وبما ضيقوا عليهم في مؤسساتهم التعليمية، وبما شنوه من حملة اعتقالات واسعة النطاق أخفت شيوخهم ومعلميهم الشرعيين في سجون لا يعرف عنها أحد، وللمسيحيين المتضررين أيضا في كنائسهم، وحرية عقيدتهم الدينية ومؤسساتهم التعليمية.
4- التحرك نحو خطوة وطنية جريئة لإنقاذ الوطن من الانهيار المتوقع، إن كان هذا ممكنا، وإلا وقعت الواقعة، وربما كانت هي القاضية.
5- كتابة مذكراتهم بتجرد، ونقد تجربتهم النضالية بحيادية وموضوعية، وليس بلغة التمجيد للذات، والتي كتب بها الأمين محمد سعيد كتابه ( الثورة الارترية الدفع والتردي ) وضمًَنه الاتهام باللاوطنية والانشقاقية للمناضل عثمان صالح سبي – رحمه الله – والكذب على الحركة الإسلامية الارترية التي وصفها بالعمالة.
وليس من الموضوعية في شيء أن يسكت الأمين في كل صفحات كتابه، عن ذكر إسياس أفورقي بأي نقد لتصرفاته، خلال هذه المدة النضالية الطويلة من عمره، في حين يأخذ راحته في وصف الآخرين بكل النقائص، أليست هذه هي الصنمية التي مات الأمين وهو يعمقها.
ولا أيضا بلغة المناضل (أحمد طاهر بادوري) الكربلائية، التي صاغ بها كتابه ( إرتريا رحلة في الذاكرة ) وسكت هو الآخر عن ذكر أفورقي بأدنى خطإ أو خطيئة، وكأنه نبي معصوم، نقي الصفحة، ليس في تاريخه النضالي ما يستحق الإدانة والاستنكار. في حين سل السيد بادوري سيفه على مناضلين آخرين واصفا إياهم بالخيانة، والقبلية، والطائفية، والدموية.
إنها الصنمية نفسها.
وأدري أن الوضع الذي هم فيه اليوم من الضعف والتهميش، لا يمكنهم من الإفصاح والإعراب عن هذه التوبة، وهذا الإعتذار، ولكن أقول لهم: استغفروا ربكم إنه كان غفارا، وسربوا شهاداتكم بخطكم إلى الخارج، في قصاصات، بأيد أمينة، أو أخفوا هذه القصاصات في مكان أمين من منازلكم؛ لتبقى وثيقة تقرأ بعد رحيلكم.
ومهما استبدت بكم الماركسية الماوية، فما أظن إلى الحد الذي لا تشعرون فيه بالذي شعر به ( ماو ) نفسه، حين قال لكسنجر: لقد تلقيت دعوة من الله.
الدعوة نفسها موجه إليكم ولا يمكنكم التمرد عليها.
وكتبه/ أ. د. جلال الدين محمد صالح
20/11/2021
كاتب حاضر، عرف الإعلام منذ أيام كان طالبًا في الثمانيات ، يرى أن القضايا الضعيفة توجب المناصرة القوية ولهذا يتشبث بالقلم