اخبار

وفاة الشيخ محمود َأبْهَوَا … خلود الذكر الحسن والسيرة العطرة

بقلم د.حامد محمد حالفه

يونيو 2019 م

موت الشيخ الداعي المبادر العامل النشط ليس كموت يتكرر كل يوم ، تصعد فيه الأرواح إلى الله ، و يأخذ المشيعون الجثامين الخاملة إلى المقابر ، ويعودون بعد أداء فريضة الدفن والدعاء إلى حياتهم العادية ؛ وذلك لأن غياب داعي كغياب نبي ، كان يقوم في الناس مقام الأنبياء ، فحق له أن يحب وأن تتعلق به القلوب ويذكر بخير وحق لنا أن نعد موته ثلمة في كيان الأمة غير منجبرة لأنه مكانه شاغر لا يشغله غيره .

عندما يحب الله العبد يأخذ بقلوب العباد ليحبه أهل السماء والأرض فيثنون عليه خيراً وتلك عاجل بشرى المؤمن كما جاء بذلك معنى النص النبوي الصحيح .

وكم من أشخاص ماتوا وماتت معهم ذكراهم الخاملة

وكم من أشخاص ماتوا وبقيت آثارهم السيئة فهم ذكرى أبي جهل تلاحقهم لعنة الله

وكم من أشخاص ماتوا وظلت ذكراهم الحسنة تشع نورا مبينا،

وسيرتهم العطرة تضيء الدرب للاحقين

فكذلك عاش الشيخ محمودإدريس حسن أَبْهَوَا بين الدعوة والتعليم والتربية والجهاد ،

وكذلك مات مذكورًا بالخير في الآخرين. فكم تحقق على يديه من النفع العميم لكثير من الناس وكانوا في ضيق قبل أن تمتد إليهم خدمة الشيخ الحنون – بعد الله تعالى – وكم من عقبة تعترض حياة الإنسان حتى تظلم أمامه فرص الخلاص ويأتيه الفرج من حيث لا يحتسب فلربما أمطرت السماء على ظمآن ، وهو يبحث الماء في التراب العميق، وربما كانت النجاة على يد حمامة لطيفة تبني عشها في باب كهف يلوذ به الأولياء من ظالم جبار.

فلا استغراب ان يبارك الله على يد الشيخ الفقيد- غير المتوج بالسلطة والمال – ومساعيه الإيجابية المخلصة التي تفعل ما يعجز عن فعله أولو لسلطة والجاه والمال .نحسبه على خير ولا نزكيه على الله .

تسعة وسبعون–ولد 1940م بطوكر الموافق 1360م -عاما أمضاها من عمره المبارك بين التعليم أخذاً وعطاءً وبين الدعوة تربية ونشرًا حتى يوم الوفاة كان لديه التزامات موعد مع طلبة علم.

وهذه عاقبة صبي قروي محظوظ يحيط به عون الله، كان يجهل أنه سوف يصبح رقما في الحياة مهما تلتف حوله الجهات الرسمية والشعبية مقدرة معظمة محترمة ويأتي إليه طلاب العلم من كل مكان وفي كل الأوقات راغبين في علمه وخلقه .

وقدر الله يسوق العبدالمصطفى إلى القمم دون أن يشعر أنه صاعد

ومن سلاح الصعود إلى المراقي أن ينال العبد التوفيق إلى التقوى والاجتهاد والمثابرة والعزيمة المتقدة والمبادرة الإيجابية والسباق إلى الخيرات .

مضى الفقيد يرتقي علمًا وعملاً حتى يوم مماته كان الكتاب رفيقه الحميم ،

رحلة بناء الشخصية :

الإخوان المسلمون هي المدرسة العريقة التي جعلت من الشيخ محمود رجل المبادرات الإيجابية والدعوة والعلم والعمل وخدمة المجتمع والثبات حتى فارق الحياة وهو موفي بعهده .

تلقاهم في مصر المؤمنة ، فاكتشف صحة مبادئهم فانتظم في تنظيمهم وتربى على منهجهم الرصين الحصين وفكرهم النير الهادي المهدي.

هاجر إلى مصر الشيخ أبهوا بالأقدام مع ثلة من خلص أصحابه بينهم :

1- الشيخ المجاهد محمد عمر الحاج – رحمه الله – مؤسس خلوة أبي بن كعب لتحفيظ القرآن الكريم بخشم القربة ولاية كسلا.

2- الشيخ عثمان إدريس مدير خلوة دار التحفيظ بديم النور مربع 1 رحمه الله – بورتسودان

3- الشيخ محمد علي محمود الحاج وكان أصغرهم سنا – حسب الرواية – حفظه الله .

وصل القاهرة فانضم إلى السنة الرابعة ابتدائي وتتابعت دراسته حتى أكمل المرحلة الثانوية

وكانت مفتاحا لقبول الشيخين الجليلين محمد عمر ومحمود أبهوا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة متخصصا في الشريعة ومتخرجا فيها عام يونيو 1971م الموافق 7 شعبان 1391م

وذكرت السيرة الذاتية للشيخ أن دراسته بدأت بالقرآن الكريم في الخلاوي السودانية – خلاويالكميلاببطوكر خاصة – ثم التحق بمعهد أمدرمان العلمي قبل أن يهاجر إلى مصر.

عاد فور التخرج من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة – حرسها وحماها وزادها شرفا – إلى السودان ليكون موظفا في الشؤون الدينة بمدينة طوكر ثم تم تحويله إلى مدينة بورتسودان ليشغل وظيفة مشابهة استقال منها ليجرد نفسه عن مشاغل وقيود التوظيف لينطلق إلى رحاب الدعوة الواسع والتربية والتعليم

مبادرات ناجحة :

الغرس الطيب ينمو ويثمر الثمرة الطيبة فقد أسس الشيخ أبهوا من صفر مجمعاً إسلامياً دون اكتمال أدوات النجاح ، كان يسوقه الأمل والعمل والعزيمة وبعون الله مضى ونما المشروع حتى أكمل من عمره المبارك 45 عاما يخرج فوجًا بعد فوج من حفظة كتاب الله تعالى وكان أحدث تخريج للحفظة حضره الشيخ أبهوا ورعاه في الثلث الاخير من شهر رمضان 1440هـ .

كانت بداية الخلوة في مدينة طوكر عام 1974م في بيت للأسرة الكريمة وبعد انتقاله موظفا إلى بورتسودان انتقلت معه فكرة خدمة القرآن الكريم عبر إنشاء خلوة فبدأ حلقة قرآنية في مسجد الحي – مسجد الختمية- عام 1976م بديم النور فتكاثر طلاب الخلوة الأمر الذي استدعى نقل الحلقة إلى قطعة أرض خالية خاصة بأحد أقاربه بديم النور مربع 1 وتم ذلك رغبة في إنشاء دار خاصة بالخلوة وتلافيا لبعض الصعوبات الإدارية والمذهبية التي واجهت الخلوة والشيخ بالمسجد على يد بعض العناصر المتعصبة حسب حديث الراوي وشهادته.

أقبل طلاب العلم على الخلوة وكثر الراغبون فيها حتى ضاق بهم المكان وهم سودانيون ومن بعض دول الجوار يجمعهم مع شعب السودان نسب وصهر ودين وخلق ومصالح مشتركة وقد ساقهم إلى الخلوة سيرة الشيخ العطرة وحسن سمعتها إلى جانب رغبتهم في تعليم كتاب الله تعالى

شاهدت حكومة الولاية الخير العميم الذي تقدمه الخلوة كما شاهدت ضيق المساحة التي تنشط فيها وأنها بيت لشخص قد يحتاج إليها ولهذا أكرمت الخلوة بمنحها قطعة أرض صغيرة كانت مجمع قمامة في مساحة واسعة خالية من التعمير وقد تم تصديق جزء صغير منها لصالح الخلوة فانتقل إليها النشاط تربية وتدريسا وأخذت حكومة الولاية تتابع الخلوة وبتواصل بينها وبين الشيخ محمود وبعض الأصدقاء الغيورين تم توسعة متدرجةلهبة حكومة الولاية من الأرض للخلوة حتى تتسع المساحة لإقامة مجمع إسلامي ضم كل فروع الدار الآن وذلك خصما على المساحة الواسعة التي كانت الخلوة الصغيرة جزئا منها .

وتطورت الخلوة حتى أصبحت مصدر إشعاع مبارك في الولاية بل قد انتشر كثير من خريجيها إلى الولايات الأخرى إما لمواصلة الدراسة أو للقيام بواجب الإمامة في المساجد أو واجب التدريس في خلاوي اخرى .

ومن شأن الغرس الطيب أن ينمو ويكبر ويخضر ويثمر ولهذا أصبحت الدار مجمعا كبيرا إذ تفرعت مع مرور الزمن إلى :

1- خلوة داخلية للبنين تضم سكنا مجهزاً بالخدمات

2- خلوة خارجية يأتي الطلاب إليها من بيوتهم كل يوم

3- خلوة للإناث

4- روضة للأطفال

5- مدرسة تكميلية التي خرجت طلابا إلى الجامعات السودانية

6- مسجد الحي داخل المجمع الذي تقام فيه الجمعة والجماعة

7- متجر ” دكان ” يعمل على دعم مناشط ومصروفات الدار المالية .

8- مجمعإسلاميفيحيالقادسية ( يضم خلوة ومدرسة أساس ومركزاً صحياًومسجدًا جامعاً. في أرض مملوكة للدار)

9- رابطة خريجي دارتحفيظ القرآنالكريم ديم النورمربع 1 :

وهي رابطة طلابية نشطة تضم خريجي دار تحفيظ القرآن الكريم تم تأسيسها لتساهم في تعزيز رسالة الدار ومواصلة عطائها فهي تقوم بمناشط عملية ذات صلة بالجانب التربوي والدعوي والأكاديمي والثقافي إلى جانب السعي على جلب الدعم للدار والمساهمة في إدارتها وتطويرها .وقد قام بتأسيسها خريجو الدار وبمباركة ورعاية من المشايخ ولا تزال تقدم العطاء الجزيل والخدمة الجليلة للدار

أثر الدار في المحيط :

كانت ا لدار خيراً وبركة على المجتمع ويتجلى أثرها الإيجابي في ما يلي :

1- هيأت الطلاب الخريجين الذين أكملوا القرآن الكريم حفظا وأكملوا المدرسة التكميلية هيأتهم إلى دخول الجامعات السودانية ليتخصصوا في مختلف فروع العلم منافسين طلاب المدارس الرسمية

2- يشهد المجتمع لدعاة ومشايخ الدار بأنهم مصدر إلهام حيث يتحركون بدعوة مبشرين ومنذرين ومصلحين من خلال منابر المساجد أو مخاطبة المناسبات أو تنفيذ الدروس الخاصة والعامة وبعض هؤلاء الدعاة كان عضو تدريس في جامعات رسمية مثل د.صالح أحمد رحمه الله .

3- المساهمة في المجال التربوي فالدار تعد محضنا تربويا عريقا يعمل على تربية الطلاب على العمل والانتاج والخلق النبيل.

4- يقوم حفظة القرآن الكريم من منسوبي الدار بالإمامة في مساجد المدن في الصلوات ا لخمس وإمامة التراويح في شهر رمضان

5- يساهم خريجو الدار في الخدمة المدينة خاصة بعد أن أكملوا المرحلة الجامعية فكثير منهم قد تم توظيفهم ليكونوا قدوة علما وعملا وخلقاً

6- يوجد من بين منسوبي الدار من التحق بالجيش مجاهدا في سبيل الله دفاعا عن العرض والأرض والحرمات ولدين وقد نال الشهادة بعضهم في جنوب وشرق السودان بينهم ابن الشيخ الفقيد اسمه خالد محمود أبهوا .فقد استشهد في معركة خور كبريت بمنطقةهمشكوريب بولاية كسلا بتاريخ 26 /10 عام 2000 وعمره 17 عاما . وكان وقتها ممتحنًا للشهادة السودانية

لحظة الوداع الهادئ :

خير من يروي لحظات الوداع الهادئ ابنه عمر الذي كان ينام ليلا بجواره في الصالون ” غرفة الضيوف” قال :

صلى الوالد صلاة الفجر في البيت على خلاف العادة ،وكنت قد لاحظت أنه مثل عادته المعهودة قام عند الأذان الأول فشغل الضوء وأخذ يصلي النافلة ويقرأ القرآن الكريم وكان يحثنا على فعل ذلك .

بعد صلاة الفجر رقد في سريره وبجواره نسخته من القرآن الكريم يقرآ فيها وكتاب في الفقه كان يطالعه

وكان للوالد جدول ثابت مع مجموعات طلابية تدرس عنده تبدأ حصصهم بين الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة الثانية عشرة ظهرا تأتي مجموعات الطلبة حسب الموعد من مواقع مختلفة من المدينة ويستقبلها متهيئا في مكتبته يتلقون عنده مختلف المواد الشرعية واللغوية

وجرت العادة أنه يصحو قبل الثامنة لتناول الإفطار والدواء قبل موعد حضور الدفعة الأولى من الطلاب.

لاحظت أنه تأخر اليوم عن الموعد فطرقت الباب عليه ، لم يرد على طرقي فدعاني ذلك إلى دخول غرفته ، طرقت الطاولة التي بجواره لعله يصحو فلم يحس ، وجدته متمددا في السرير كهيئة النائم وكان على شقه الأيمن متوسدًا يده اليمنى ووجهه مكشوف لا يرى عليه علامة غير عادية هادئ البال ، تكسوه الهيبة والوقار ، وعيناه مغمضتان والجسم ممدد بهدوء . لم يخطر ببالي أنه يلزمني الانتباه لحركة نفسه ونبض قلبه .

قلت : إنه نائم ، لعله ساهر في العبادة ، فتعب ، وكرهت أن أزعجه ، فرجعت أخبر بعض طلابه أن الوالد نائم وطلبت أن يعود لاحقا

لاحظتْ الوالدة أن الوالد لم يتابع اليوم أخبار الصباح وذكرت لها ما شاهدت من شأن الوالد ، أسرعت معي للوقوف على وضعه الصحي ، لمسناه لمسا خفيفا ، ناديناه لعله يصحو ، قلبناه برفق، فلاحظنا أنه يطاوعنا بوقار ، وجدنا أنفسنا أمام وضع غير طبيعي ومع ذلك قلنا : لعلها غيبوبة موقتة ، بلغنا بعض الأهل والأصدقاء ودعونا الطبيب المناوب في المركز الصحي المجاور .

حضر الطبيب فتحفص الحالة بسماعته ويده وخبرته فأكد لنا خبر الوفاة وقال : مات قبل ساعة من الآن تقريبا

قلت لهم : نرفع الوالد إلى المستشفى ولم أصدق خبر الوفاة ، أريد والدي أن يعيش بيننا كما كان قدوة مرشدة ، ومن هول الصدمة تساءلت : لمن يترك أبناءه ،؟ لمن يترك طلابه ؟ ولمن يترك حلقات دروسه المستمرة .؟ ولمن يترك أحبابه في الدعوة واصدقاءه في العمل العام ؟ لمن يتركنا ؟ كنت أتحدث مع نفسي دون أن يسمع الوالد أسئلتي الحائرة الباكية.

الطبيب قال لنا : البقاء لله ، الوالد مات فاصبروا واحتسبوا

الصدمة كانت كبيرة والجرح عميق ولا نقول إلا ما يرضى الله ، إنالله وإنا إليه راجعون

قال عمر : كانت الوفاة في السادسة صباحا تقريبا وتم نشر الخبر في الثامنة وكان الدفن قبل صلاة الظهر والحضور المشيع كان يمثل كل ألوان طيف المدينة الرسمي والشعبي وقد اكتظت بهم ساحة مسجد المقابر الكبير إلى جانب المساحة المحيطة خارج المسجد فكلهم أتى ليحضر مراسم دفن الشيخ الوقور محمود أبهوا مودعا داعيا .( انتهى.)

كما تتابع المعزون من الولايات حضورا أو اتصالا لأن فقد الشيخ أبهوا ألم عميق فحق لغراسه الطيب أن يبكي عليه.

مؤشرات سارة :

1- يوم الوفاة كان يوم الاثنين العاشر من يونيو 2019م

2- الوقت : بعد أداء صلاة الفجر المشهودة التي تجتمع فيها ملائكة الليل وملائكة النهار

3- المكان : مكان الذكر والعلم والخلوة مع الله

4- والشيخ صديق العلم والتربية أخذا وعطاء

5- إنها مؤشرات سارة تضاف إلى ذكر المؤمنين للشيخ الكريم بالخير فشهادتهم لا يخيب من نالها لأنهم شهداء الله في الأرض كما ورد الحديث الصحيح بذلك .

موقفان :

مثالا لما كان يقوم به الشيخ الفقيد محمود أبهوا أذكر موقفين تركا في نفسي أثرا إيجابيا فقد أكرمني الشيخ بخدمة جليلة كما كان يكرم غيري بمثلها فشمائله غير محصورة أثابه الله

الموقف الأول :

عام 1990م أتيت إلى السودان زيارة للأهل قادماً إليهم من السعودية وعند العودة بحرًا من ميناء بورتسودان رفضت إدارة الجوازات توقيع تأشيرة الخروج لي وزعمت أن اسمي محظور من السفر يلزمني مراجعة إدارة مختصة بالخرطوم معنية بالأمر.

استغربت للأمر ، لأني أولاً لم أتوقع أن يكون اسمي وشخصي مشابها لشخص سياسي تلاحقه حكومة الإنقاذ الإسلامية الحديثة الولادة

واستغربت للأمر ثانيًالأني إسلامي دراسة وانتماء وعاطفة ومناصر لشعارات أتت ترفعها ثورة الإنقاذ قبل أن يتدنس ثوبها بالفساد الذي غرقت فيه فكره اسمها الشعب السوداني المسلم.

جادلت عن نفسيي كثيرا لدى الضابط المعني لكنه أغلق الباب في وجهي وقال : مطلوب منك أن تتحرك إلى الخرطوم لفك الحظر .

سأني الإجراء ليس لأني أخاف من الوقوف امام تحري في الخرطوم يثبت براءتي من الشبهة السياسية المعارضة لكني متضايق لأني لا أملك زمنا يكفيني للذهاب والعودة . والسفر وقتئذ كان بطريق كسلا – القضارف – الجزيرة – حتى نصل الخرطوم إنه طريق طويل لا يمكن قطعه إلا بعد أن يقطع المال والزمن والقوة وينال من المعنويات.

هداني التفكير إلى البحث عن شخص شافع لعله يدرك لغة رجال الجوازات خاصة أن التأشيرة تهددني بالسقوط إذ لم يبق لها إلا أيام معدودة

ارشدني بعض الأصدقاء إلى الشيخ محمود أبهوا مدير ومؤسس دار تحفيظ القرآن الكريم بديم النور مربع 1 وقيل لي إنه مبارك واصل خدوم وأثنوا عليه خيرا بما هو أهله ,

لم أكن خالي الذهن عن سماع اسم الشيخ أبهوا الذي كان يتردد في الآفاق ومع ذلك قلت : ما بوسع شيخ خلوة أن يفعل تجاه مشكلة جوازات وشرطة وسياسة ومع ذلك اتجهت إليه لعل بركة القرآن الكريم تعمل في تذليل الصعوبات

طرقت بيته وقلت له : محتاج للمساعدة وحكيت له المشكلة

وعدني بالسعي و أوصاني بالدعاء ، ودخل بيته فتهيأ للمشي معي ،

المواصلات كانت معدومة ، والأجواء ثائرة ، والثورة من أولوياتها ا لتمكين لنفسها ، فهي مشغولة بمطاردة خصومها وحماية نفسها أكثر من مصالح شخص مسافر بينه وبين خذلان تأشيرة السعودية في جوازه أيام معدودات ..والشعب محتار حتى أني أذكر أن طائرة أتت بنا من جدة إلى مطار بورتسودان لم تجد من يستقبلها بسلالم نزول فبقينا في الحر بباطنها القاتل عندما تم إطفاء المحركات حتى أتانا بعض موظفي المطار متأخرين ما يصل لساعة كاملة منذ وصول الطائرة وقد قيل لنا : جيئ بهم من بيوتهم قسرا

ثم بقينا في المطار حتى أصبحنا لعدم وجود الموظفين الذين يقومون بالإجراءات .

الشيخ محمود مضى معي إلى إدارة خاصة بالشؤون الدينية كان يرأسها شخص من بني عامر أو حباب لا أذكر التفاصيل بخصوص انتمائه القبلي ولي قناعة أنهم أمة واحدة لسانا وعرفا ودينا ومن فاته النسب عند قبيلة يلحق بها مصاهرة فهم مزيج ببعضهم غير منفصم .

أتيناه مشيا على الأقدام في كثير من المسافات التي قطعناها حيث ندرة المواصلات

المدير رحب بالشيخ أبهوا وأنا كنت أقف خلفه صغير الجسم والعمر محتارا يخاف من فشل المساعي في ظرف يتهددني فيه انتهاء التأشيرة وكنت أشك كيف بوسع شيخ خلوة أن يجد حلا عند شيخ إدارة دينية وهما ليسا طرفا لدى شرطة الجوازات التي تطالبني بالذهاب إلى الخرطوم بهدف فك الحظر عن اسم تحوم حوله تهمة سياسية مع أني كنت متأكدا أن التحري سوف يبرئ الذئب من دم يوسف.

رابني ما شاهدت من حوار غريب بين الشيخين فهذا يطالب بشفاعة والآخر يرحب بالشفاعة ويطلب الجواز .

دفعت إليه الجواز فإذا بالحوار المنشرح يستأنف منقبضًاً وقد تضاءل تفاؤلي مذ رأيت تلاشي الانشراح في الجلسة ومضى الحوار بين الشخصين :

· هذا جواز غير سوداني ولا أجد ما يسوغ لنا للشفاعة له لتذليل الصعوبات الإدارية الرسمية بخصوصه، دع الأمور تسلك وفق الإجراء الرسمي يا شيخ محمود

· كلامك صحيح لكن الحالة معروفة لدينا، والخدمة معروف لمن يستحق، ونحن في غنى عن التفاصيل لأننا لدى من يعرف التفاصيل ويقدرها ولهذا أتيناك واثقين .

لا يوجد في الحوار بين الطرفين أكثر من هذا المعنى وقد تم وقوفاً بين الطرفين لأن الشيخ مدير الإدارة نهض إجلالا للشيخ مدير الخلوة الذي يقف استعجالا للمعاملة حتى ندرك الجوازات قبل نهاية الدوام.

وكنت اظن أنه سوف يطول الجدال والترجي وربما يتطلب تقديم رشوة وأنا طالب لا أقوى على دفع الرشاوي والشيخ الوسيط لا أتوقع انه أحسن حالاً مني مالاً ، فكلانا حضر المقر يمشي على قدميه ، لا عربة خاصة، ولا عربة أجرة،والمواصلات العامة متعثرة بسبب الأوضاع ا لسياسية غير المستقرة .

انتهى الحوار القصير بين الشخصين بالتوقيع على قصاصة ورقة صغيرة تحمل سطرين اثنين لا غيرهما: الأول منهما لم أستطع قراءته والسطر الثاني فيه التوقيع والمزيل بالتاريخ

لم أثق بالورقة استصغارًا لحجمها ومضمونها فقلت للشيخ محمود :لا أظن أن هذه الورقة تغني لأنها لم تتضمن عبارة لطيفة ولا جملة مفيدة

قال الشيخ : المهم توقيع ( شيباي) وعبر عن تفاؤله بحل عقدة الجواز والاسم المحظور

وصلنا الجوازات فاستقبل الضابط الورقة برضى وترحيب، ودقائق انتظرناها استلمنا بعدها الجواز مختوما معززًا مكرماً

رحمك الله يا شيخ محمود كنت رجل المجتمع يعرف كيف يخدم ، ويعرف المداخل والمخارج في مدينة هو خبير بها ولصالح إخوة في الله هو خدوم لهم برضى وسرور. نعم نجوت من عقدة الإحساس بالدونية في وطن أنت ملك فيه عزيز مثل كل المواطنين شامخ لا تقمعك صفارة ” جنسك شنو” التي أرعبت الكثيرين حتى تواروا عن أنفسهم وعن أهليهم خوفا من مواجهة هذا السؤال المستبد في وطن هم أحق به وأهلوه منذ قديم الزمن

مشهد آخر :

عندما تخرجت من مرحلة الماجستير هممت بالعودة إلى السودان ، ومن مصاعب العودة أنه كان لي كتب مرجعية شرعية ولغوية وثقافية والعدد كبير ليس من السهل حمله مع طالب يسافر بالطائرة على حساب جهات خيرية مانحة فأصبحت بين خيارين صعبين :

· خيار ترك الكتب عجزًا عن حملها على الرغم من الحاجة الملحة إليها بحكم المهنة الدعوية

· خيار السعي إلى جهة خيريةترحل الكتب مجانا دعما لطالب علم خريج ، نعم كان هذا هو الخيار المفضل فقد وجدتها – عبر أصدقاء كانت لهم ظروف مثل ظروفي – فسلمتها الكتب في صناديق حديدية كبيرة ، كتبت على ظهر كل صندوق عنوان الشيخ محمود أبهوا وقد أشعرته أن يكون في استقبالها وحفظها وقلت : إنني ضنين بكتبي هذه ، لا أريد أن أتبرع بها لأحد ولا أريد أن تسكن معي في بيت طين وقش مهدد بالاحتراق في كل موسم أقول ذلك وأنا أذكر أن دعاة من خريجي السعودية احترقت كتبهم في منازل من طين وقش في شرق السودان وهم زملاء لي أعزاء كرام ذرفوا دموعا غالية على حصيلة عمرهم التعليمي تحولت في لحظات إلى حمم ورماد وهم شهود ، ودعوها بأسى وألم؛ فقد التهمتها ألسنة اللهب في قطاطي القش والطين وهذه نتيجة متوقعة هربت منها إلى دار الشيخ محمود رحمه الله فمن دخلها كان آمناً.

بلغت الرسالة الشيخ أبهوا فأخذ يترقب وصولها ومضى أكثر من سنةدون أن يجد لها أثرا ولا خبرا .ارسلت إليه قسائم ” وثيقة الشحن ” الإرسال فتتبعها عبر المخلص حتى قال :الكتب وصلت ميناء بورتسودان ثم عبرت إلى الخرطوم نعم إلى غير عنوانها ، وقد استلمتها منظمة دعوية إسلامية معروفة ومضى الشيخ محمود يتابعها بإلحاح شديد وبتحمل بعض تكاليف إعادتها من جديد إلى بورتسودان ، نعم وصلت دار الشيخ أبهوا وحفظت .

كنت أزورها بين فترة وأخرى فأجدها مصونة في صناديقها لم يعبث بها الدهر ، ولا مدت إليها يد سوء

أحسست أنها مزعجة في دار الشيخ لأنها تتطلب نقلا من مكان إلى مكان ومن زاوية إلى أختها كلما اقتضى الحال لنظافة أو صيانة أو تزيين عيد وترتيب أغراض البيت الذي يتجدد في كل مناسبة.

لكني لم أثر موضوعها لأني لم أكن جاهزًا لاستقبالها حيث قدرت ان المكان المناسب لها هو هنا فهي عند من يقدرها قدرها ، ويعرف لها مقامها

وظلت مقيمة آمنة مدة تزيد عن عشر سنواتاستلمتها بعدها وبعد أن صنعت لها مقرا لائقا بها

بعيدا عن التهديدات إلا من مزاحمة الشبكة العنكبوتية التي ثبطت همة القارئ عن الكتب الورقية

هذان مشهدان من مواقف الشيخ محمود معي – رحمه الله- فهو كان مثل ذلك مع كل الاحباب والاصدقاء يتفانى في خدمة الناس ويصبر ويعين

علم الشيخ :

الشيخ محمود كان عالما متشعب التخصصات فإلى جانب العلوم الشرعية والدعوية كان يجيد مادة الرياضيات وعلوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وخطه آية في الجمال يرسم الكلمات على السبورة فتزداد بهاء وهو هو في القراءة والاطلاع نَهِمٌ بها حتى يوم الوفاة كانت المكتبة حاضرة بجواره .

العمل العام :

سألت بعض المشايخ عنه الأصحاب فأكدوا لي أنه لم يتخلف عن مشهد عام يجمع الناس إلى فعل الخيرات فهو علم قدوة في التلاوة والذكر والمبيت والدروس والاجتماعات الدورية والاسرية الأسبوعية كما أنه كان داعية مشهوداً له بالجد والاجتهاد والهمة والنشاط في تنفيذ الدروس لخاصة بالنساء ويعين المؤسسات والمنظمات الدعوية في إنجاز مهامهم ا لدعوية والتربوية

فما من منشط تقيمه الحركة الإسلامية إلا ويذكر اسم الشيخ محمود مخططا أو منفذا أو معينا أو مذللا بعض العقبات الإدارية في شفاعات حسنة يقوم بها لدى الجهات المعنية لصالح الجهات المحتاجة .كان يقنع هذا الطرف القوي ليذلل صعوبات هذا الطرف المحتاج. وكان محل رضى عند الجميع

السطر الأخير :

الموت حق وكل الناس وارده والذكر الحسن والسيرة العطرة هي امتداد باق لحياة الفقيد فمن شاء أن يذكر عند الله وعند خلق الله بالخير ، ومن شاء أن تنمو حسناته ولا تنقطع بموته فليترك أثرا من بعده طيبا : علما ينتفع به أو وقفا تمتد خدماته إلى الناس وتتواصل ، أو مبادرات إيجابية مادية أو فكرية وعملية تساهم في إنقاذ الأمة أو أن يضع يده في يد إخوانه مؤازرة للعمل والواجب العام الذي قد يتنكر له ويخذله كثيرون تفرغا للعمل الخاص الذي لا تتعدى ثماره محيط الأسرة الضيقةفمن عاش لنفسه دون غيره خذله جهده، و قتله خموله وانمحى ذكره ومن عاش لنفسه وللآخرين يجد البركة في جهده وجهاده تجاه الواجب الخاص والواجب العام فهما يتآزران ولا يتخاذلان.

حياة الشيخ أبهوا وتجربته الثرة قدوة طيبة لنجاح الأفراد في أداء الواجب العام إنها جهد إيجابي ناجح به تبنى الشخصية وبه يتحقق نفع عام للمجتمع فهذه سيرة عطرة وكتاب مفتوح ينير الطريق للراغبين في الوصول إلى قمة النجاح فما خاب من سعى وشمر وعمل واتقى الله سراً وعلانية

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى