أ. إبراهيم قارو:سباقٌ جيوسياسيٌّ محمومٌ يشتعلُ على سواحلِ البحرِ الأحمر
تصريح واحد هز أركان المشهد الأمني في أهم ممرات الملاحة العالمية.
نحن لا نتحدث عن مجرد خلاف حدود ، بل عن تحول خطابي درامي يرفع سقف المطالب من الحقوق الداخلية إلى مشروع جيوسياسي دولي !
كيف تحول بيان ” عفري ” حول تطوير القدرات البحرية إلى ورقة ضغط استراتيجية لدى قوى إقليمية كبرى على رأسها إثيوبيا ؟ وما هو الثمن الحقيقي ل ” الابتزاز الرمزي” الذي يمارس الآن في منطقة ملتهبة ؟
التحليل التالي يوضح كيف كان البيان فشلا في بناء المواطنة داخل إرتريا وكيف تستثمر أديس أبابا في ” الوكيل الرمزي” لتعيد التموضع على البحر الأحمر؟
والسؤال الأهم هل ينجح النظام الإرتري ومعارضوه في صياغة( عقد وطني جامع ) قبل أن يصبح فراغ الدولة مدخلا لتقسيم النفوذ على سواحلنا ؟
مقال الأستاذ إبراهيم رمضان قارو يضع النقاط فوق الحروف في تحليل رصين و( زينا ) تنال شرف نشره.
التحوّل الخطابي والمقامرة الإقليمية: كيف يعيد البيان العفري رسم خريطة النفوذ في القرن الإفريقي
مقدمة:البيان العفري …مؤشر لأزمة الشرعية وخطر التدويل
تشهد التفاعلات الجيوسياسية الراهنة في منطقة القرن الإفريقي، ولا سيما على امتداد حوض البحر الأحمر، تحوّلاتٍ بنيوية تُعيد تعريف محاور الصراع وأدواته. وفي خضم هذا السياق المتأزِّم، يبرز “بيان العفر” الصادر عن التنظيم الديمقراطي لعفر البحر الأحمر (RSADO) كوثيقة تتجاوز دلالاتها المحلية المباشرة، لتشير إلى ديناميكية إقليمية أعمق. هذا البيان، بما تضمنه من إشاراتٍ صريحة إلى تطوير القدرات البحرية وتبنّي خيار تقرير المصير، لا يُمثّل مجرّد تكتيكٍا جديدا للمعارضة الإرترية، بل يُعدّ مؤشراً على تفاقم أزمة الشرعية الداخلية للنظام الحاكم في أسمرا، وعلى قدرة الفاعلين الهامشيين على توظيف خطاب الهوية باعتباره رافعة للتدويل.
يتناول هذا التحليل النقدي البيان العفري ليس باعتباره حدثاً معزولاً، بل بوصفه نقطةَ تقاطعٍ استراتيجية بين إخفاقات مشروع الدولة الإرترية في بناء مواطنة جامعة وبين الطموحات الإقليمية المتصاعدة — خصوصاً المحاولات الإثيوبية لإعادة التموضع في المعادلات البحرية عبر استثمار أوراق الضغط الداخلية. كما يسعى هذا التحليل إلى تفكيك انتقال الخطاب العفري من المطالبة الحقوقية المشروعة إلى مشروعٍ جيوسياسي يمكن توظيفه كأداة نفوذ، مع تسليط الضوء على التداعيات الخطيرة لهذا التحوّل على السيادة الوطنية الإرترية واستقرار الإقليم. ومن هنا، يفرض المقال سؤالاً محورياً حول قدرة القوى الإرترية نظاماً ومعارضة على صياغة عقدٍ وطنيٍّ جامع يُبطِل مفعول الأوراق الإقليمية، قبل أن تتحوّل أزمة الدولة إلى مدخلٍ لتدويل الصراع على حساب وحدة النسيج الوطني والأمن الإقليمي في أحد أهم ممرات الملاحة العالمية.
لحظة التأسيس:تحول الخطاب وفتح نافذة النفوذ الإقليمي
البيان الذي أصدره التنظيم الديمقراطي لعفر البحر الأحمر (RSADO) في 21 أكتوبر 2025 يتجاوز كونه إعلاناً عن تخرّج دفعةٍ من المقاتلين من أبناء العفر أو تصريحاً عسكرياً تقليدياً؛ إذ يُؤسّس لحظةً مفصلية تُكرِّس تحوّلاً جوهرياً في طبيعة الخطاب السياسي لدى شريحة من المعارضة الإرترية. هذا التحوّل يفتح نافذةً على ديناميكية إقليمية أوسع نطاقاً تستخدم قضية الهوية كأداة لإعادة هندسة خرائط النفوذ في القرن الإفريقي، خصوصاً على الشواطئ الاستراتيجية للبحر الأحمر.
التحول الجيوسياسي:عندما يصبح الخطاب الرمزي ورقة ابتزاز بحرية
وقد جاء نصّ البيان العفري صريحاً في تأكيد تطوير القدرات العسكرية والبحرية، وفي إحياء شرعية حق تقرير المصير، معلناً أن القوة التي يبنيها التنظيم هي «ردٌّ مشروع على منظومةٍ قمعية حاكمة». وفي هذا السياق، يُعدّ تصريح القائد إبراهيم هارون حول «تطوير القدرات البحرية» مؤشراً واضحاً على محاولة تدويل النزاع عبر الإيحاء بقدرةٍ محتملة على التأثير في أمن الممرات والمنافذ البحرية الحيوية.
وبناءً على المعطيات الميدانية التي تشير إلى أن التنظيم لا يمتلك كثيرا من قدرات بحرية مهددة للخصوم ، فإن هذا التصريح يُثبت أن القيمة الحقيقية تكمن في رمزيته لا في مضمونه العسكري. فغياب الإمكانيات اللوجستية يجعل من الخطاب نفسه أداة استراتيجية، إذ يُستخدم التلويح بالقدرات البحرية كرسالة جيوسياسية لرفع الكلفة السياسية على أسمرا والقوى الإقليمية المعنية. هذا يؤكد أن المشروع العفري في هذه المرحلة لا يُبنى على الفعل الميداني بقدر ما يُبنى على القدرة على الإيحاء بالتهديد، أي أن القوة الرمزية تحل محل القوة الفعلية. وهنا يتحول التصريح إلى أداة لفعل سياسي يهدف إلى جذب الانتباه والتمويل والتدويل عبر توسيع مسرح النزاع إلى البحر الأحمر، حتى دون امتلاك قدرة حقيقية كبيرة قادر على تعطيل الملاحة.
ومن هذا المنظور، يصبح الخطاب العفري امتداداً للاستراتيجية الإثيوبية في استخدام “الوكلاء الرمزيين” كورقة ضغط مرنة دون الانخراط المباشر. فإثيوبيا ليست بحاجة لأن يمتلك التنظيم سفنًا أو تجهيزات بحرية، بقدر ما تحتاج إلى توظيف رمزية هذا التصريح لتأكيد حضورها غير المباشر في ملف البحر الأحمر. هذا التوظيف الرمزي يضع النظام الإرتري في مأزق الرد: فالقمع العنيف يعطي الخطاب شرعية دولية، بينما التجاهل يُظهر ضعفاً في مواجهة أوراق الضغط الخارجية. وهي معضلة تضع النظام بين فكيّ الرد الأمني والمأزق الدبلوماسي.
هذا التحوّل في اللغة والمضمون لا يمكن إدراكه بمعزلٍ عن الإخفاقات البنيوية للنظام الإرتري في تأسيس عقدٍ اجتماعي يضمن المواطنة الشاملة ويستوعب التنوّع الإثني والاجتماعي. فعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، دأب النظام المستبد في أسمرا على احتكار السلطة الأمنية والسياسية، محوّلاً التعددية إلى معطى يُنظر إليه بوصفه تهديداً أمنياً. ونتيجةً لذلك، نشأت بيئةٌ خصبة لخطابٍ هويّاتيٍّ يشرعن الخروج من إطار المواطنة الجامعة إلى منطق الانفصال أو المطالبة المتسارعة بالحكم الذاتي.
وغدت القوى السياسية وحركات المقاومة الهامشية تُقرأ اليوم كـبؤرٍ قابلة للاستثمار الخارجي، خاصةً حين تتشابك مصالحها مع طموحات دولةٍ إقليمية كبرى تسعى لاستعادة موقعها البحري وتعزيز نفوذها الجيوسياسي.
ويُعدّ تموضع التنظيم العفري داخل الفضاء الإثيوبي، وإعلانه المتكرر عن نشاطاته من داخل إقليم العفر الإثيوبي، دليلاً على الامتداد الحاضن له وعلى إدارة نشاطاته السياسية والعسكرية من بيئةٍ جيوسياسية تتداخل فيها المصالح الإثيوبية مع أهداف التنظيم المعلنة.
هنا تتسع زاوية التحليل لتشمل الامتداد العفري في الإقليم كله، إذ لا يمكن فصل الحاضنة الإثيوبية عن الامتداد العفري في جيبوتي. فإقليم العفر في إثيوبيا لا يمثل مجرد ملاذ جغرافي، بل يشكل بنية سياسية وأيديولوجية تدير النشاط العفري في إرتريا من خلفية متشابكة مع المصالح الإثيوبية. هذا الارتباط يخدم المسار الإثيوبي الثالث (الأيديولوجي) الذي يغلّف العودة إلى البحر بخطاب قومي تاريخي. وفي المقابل، يشكل الامتداد العفري في جيبوتي بعداً جيوسياسياً إضافياً، إذ يربط بين خطاب الانفصال العفري والبيئة البحرية الدولية التي تحتضن قواعد القوى الكبرى. أي تحريك للورقة العفرية من الجانب الإرتري يثير تلقائياً قلقا جيبوتيا وشركاءها، ما يضيف بعداً دولياً جديداً يتجاوز حتى النفوذ الإثيوبي. ومع ذلك، فإن الانخراط العفري في مشاريع القوى الإقليمية يعمّق خطر تجزئة الهوية العفرية على ثلاث دول ويحول دون بناء مشروع حقوقي مستقل.
من زاوية تحليل الخطاب يُعيد البيان إنتاج ثنائية الإخضاع والتحرر، حيث يُستخدم خطاب «المقاومة» اليوم لصياغة شرعية مغايرة تُحوِّل مطلب العدالة إلى مشروع سيادةٍ وطنيةٍ منقسمة. واستدعاء مصطلحات «الطائفية» و«التهجير القسري» و«الانفصال» لا يخدم فقط تعبئة القاعدة المحلية، بل يشكّل أيضاً سلاحاً رمزياً موجهاً نحو الفاعلين الإقليميين والدوليين، يُوحي بوجود خطرٍ يتجاوز كونه أزمةً داخلية.
هذا الانتقال الرمزي من المطالبة الحقوقية إلى المشروع الجيوسياسي يجعل من البيان أداةً تفاوضية بقدر ما هو إعلان قتال؛ فالإيحاء بالقدرات البحرية المستقبلية يرفع الكلفة السياسية للتنظيم، ويجعله محطّ اهتمام القوى الكبرى ذات المصالح المباشرة في أمن الملاحة والاقتصاد البحري.
المسارات الإثيوبية :استراتيجية “الوكيل الرمزي” لإعادة التموضع البحري
ويحتل المشهد الإثيوبي في هذه اللعبة دوراً مركزياً ومحورياً تستدعي قراءته تحليلاً في ثلاثة مسارات متوازية ومتكاملة تخدم جميعها هدفاً موحداً وهو إعادة تأهيل موقع إثيوبيا في المعادلات البحرية الإقليمية.
المسار الأول: هو المسار الرسمي الدبلوماسي الذي يسعى الى صياغة خطاب “المصالح المشتركة” بما يسمح لإثيوبيا بالمناورة السياسية دون الإعلان عن أطماع علنية.
المسار الثاني: فهو المسار الأمني الذي يستثمر في القوى المحلية كالتنظيم العفري كورقة ضغط مرنة تتيح لعدّة أدوات لاجتذاب النفوذ أو تهديد الساحات الإرترية دون الانخراط في مواجهات مباشرة مع أسمرا.
ويُعد المسار الثالث والأخطر هو المسار الأيديولوجي الذي يستحضر إرثاً تاريخياً يُؤطر العودة إلى البحر بوصفه واجباً قومياً. هذا التأطير يمنح أي تحريك خارجي غطاءً شعبوياً يُضفي عليه شرعية ثقافية وتاريخية ويغلفه بلغة الهوية.
هذا التوظيف الثلاثي يجعل من الورقة العفرية بنداً في صندوق الأدوات الإثيوبية قد يُستخدم على نحو متدرج وليس مجرد تقاطع مصادفة للمصالح. وتُرسخ هذه الديناميكية فرضية أن الدعم أو الحضانة الإثيوبية للتنظيم العفري لا تُمثل مجرد مسألة إنسانية أو أخوية ثقافية، بل هي استثمار استراتيجي في إعادة رسم خرائط النفوذ البحري.
معضلة الرد:مأزق النظام الإرتري بين القمع والتدويل
في المقابل يتمسك النظام الإرتري بمنطق بقائه الأمني، وهو منطق يواجه إشكالية مزدوجة: فمن ناحية قد يمنح الرد القمعي الحاد خطاب الانفصال مزيداً من الشرعية ويزيد من قاعدة التعاطف الدولي، ومن ناحية أخرى قد يُسهم التردد أو الحلول العسكرية العابرة للحدود في تدويل الصراع وتحويله الى مواجهة مباشرة بين القوتين الجارتين أو أكثر. فقد النظام الإرتري مرونته السياسية وشرعيته الداخلية نتيجة سياسات الإقصاء، وبات يواجه معضلة استراتيجية تتمثل في كيفية الردّ دون أن يتحول أي ردٍّ إلى ذريعةٍ للتدخل الإقليمي. ويبقى المخرج في أداءٍ سياسي معقّد يتطلب تدرّجاً عقلانياً لا انقلاباً أمنياً، لكن ذلك لن يتحقق ما لم تنشأ بدائل سياسية داخلية قادرة على استعادة ثقة المكونات المهمّشة.
مأزق الذات العفرية: خطر التوظيف الإقليمي وتفكيك المشروع الوطني
على الجانب الآخر يحتاج الفاعل العفري نفسه إلى نقدٍ واضح وبنّاء؛ فمطالبته بإنهاء التهميش تُعتبر شرعية تاريخية والدفاع عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية هي شرعية أخلاقية؛ لكن الانتقال إلى تبنّي خيار الانفصال كأفق محدد يُعرّض المشروع لمخاطر تفكك شرعيته الوطنية ويجعله عرضة للتحكّم أو التوظيف الإقليمي. وعندما يتزامن رفع سقف المطالب مع بناء قدرات عسكرية وبحرية مجردة من استراتيجية سياسية واضحة لإدارة علاقات ما بعد الصراع فإن ذلك يطرح سؤالاً عملياً حول قدرة التنظيم على تحويل خطاب التحرّر إلى مشروع ديمقراطي قابل للحياة يجذب شركاء وطنيين بدلًا من أن ينقله إلى معزل إثني.
نجاح المشروع في خلق قاعدةٍ شعبيةٍ حقيقية يتوقف على قدرته على طرح بديلٍ سياسيٍّ شامل، لا على جعل الانفصال هدفاً بحد ذاته. أما التماهي المتزايد مع الأدوار الإقليمية، فيُقوّض استقلالية الحركة ويحيلها إلى أداة نفوذ، بما ينسف أي أفقٍ سياسي داخلي طويل الأمد.
المكونات الإرترية الأخرى: هشاشة المشروع الوطني
كما ينبغي أن تمتد دائرة التحليل لتشمل المكونات الإرترية الأخرى حيث تأتي رابطة أبناء المنخفضات وغيرها من التشكيلات التي تشكل احتياطيّات اجتماعية يمكن استدعاؤها كساحات موازية للنزاع. ويتجلى نقد هذه القوى كذلك في ضعف الترجمة السياسية للمظلوميات إلى رؤية وطنية جامعة، وفي هشاشة التنسيق والتنظيم الذي يجعلها فريسة للتمويل والتوظيف الخارجي. وهنا يتعمق التحليل ليكشف أن ضعف التنسيق لا يمثل خللاً إدارياً فقط، بل هو فشل استراتيجي يعطل إمكانية بناء جبهة وطنية جامعة قادرة على التفاوض الجماعي حول مستقبل الدولة. فهذه المكونات تملك ثروات اجتماعية وسياسية يمكن أن تكون رصيداً وطنياً لو أحسن توجيهها، غير أن افتقارها للرؤية الشاملة يجعلها أدوات في يد الخارج أكثر من كونها قوى لبناء الداخل. إن غياب المشروع الوطني الجامع لا يفتح فقط الباب أمام المشاريع الإثنية الضيقة، بل يعزز فرص الاستثمار الإقليمي في الانقسام ويقوض أي مسار نحو استعادة الدولة.
يتبدّى الفخّ الاستراتيجي هنا في أنّ كل فصيلٍ يظن أن استثمار طاقاته في هدفٍ ضيّق أو تحالفٍ إقليمي قصير الأمد سيحقق مكاسب سريعة، لكنه في الواقع يُعزّز نمطاً طويل الأمد من الانقسام يُضعف قدرة الشعب الإرتري على التفاوض الجماعي حول مستقبله.
تدويل الأزمة :الأمن البحري ورهانات القوى الكبرى في البحر الأحمر
ولا يمكن إغفال البعد الدولي الأوسع؛ فالقوى الكبرى والإقليمية ذات المصالح المباشرة في أمن الملاحة والموارد في البحر الأحمر — بما في ذلك الموانئ والطرق التجارية — لن تقف مكتوفة الأيدي. أي اضطراب في هذا المحور سيجذب اهتمامها وقد يتحول إلى دعمٍ دبلوماسي أو لوجستي، وربما عسكري، يُغيّر قواعد الاشتباك. بذلك يغدو البيان العفري عنصراً ذا قيمةٍ استراتيجيةٍ تتجاوز واقعه الميداني المباشر، وتزيد من احتمال التدخل الخارجي في حال تهديد الملاحة أو المصالح الاقتصادية في المضائق والموانئ الحيوية.
المخرج الوطني :شروط بناء عقد اجتماعي جديد لتجاوز الفراغ الاستراتيجي
ما الذي يستوجب فعله من القوى السياسية الإرترية في هذا الظرف؟
الطريق إلى تجاوز الأزمة الإرترية لا يمر عبر إعادة إنتاج الخطابات القديمة أو المقامرات الإثنية، بل يمر من خلال صياغة مشروع وطني جديد يعيد تعريف الدولة على أسس العدالة والشراكة لا الهيمنة والإقصاء. فالمطلوب اليوم ليس إصلاح النظام فحسب، بل إعادة بناء المفهوم السياسي للدولة الإرترية من جذره — دولةٌ تقوم على التعددية قيمة، والمواطنة مصدرٍا للشرعية، لا أداةٍ للفرز والولاء.
وفي هذا السياق، يبرز الدور المركزي لكلٍّ من المجلس الوطني الإرتري للتغيير الديمقراطي بوصفه أكبر مظلة سياسية جامعة للمعارضة الإرترية، والائتلاف الوطني الإرتري كإطارٍ تنسيقي يمكن أن يتحول إلى منصةٍ عملية لتوحيد الرؤى والمواقف. فهذان الكيانان، إذا ما أعيد تعريف أدوارهما ضمن رؤية وطنية شاملة، يمكن أن يشكلا نواة جبهة سياسية موحدة تعيد التوازن إلى مشهد المعارضة، وتنقلها من مرحلة ردّ الفعل إلى مرحلة المبادرة في إنتاج البديل الوطني. المطلوب هو أن يتحول المجلس والائتلاف من هياكل تمثيلية متفرقة إلى أدوات للتخطيط الاستراتيجي وصناعة التوافق السياسي، بما يضمن توجيه الطاقات المتناثرة نحو هدفٍ جامع بدلاً من تكرار الانقسامات.
على هذا الأساس، تتحدد ملامح التحول المنشود عبر أربعة مسارات مترابطة تمثل الحد الأدنى لأي مشروع وطني قابل للحياة:
أولا. إعادة بناء مشروعٍ وطني جامع لا يكتفي برفض النظام القائم، بل يقدّم عقداً اجتماعياً جديداً يُوازن بين الحقوق والواجبات ويستوعب المظلومية في أطرٍ إدارية وسياسية قابلة للتطبيق.
ثانياً. التوافق على ميثاقٍ وطني موحد بين فصائل المعارضة والقوى المدنية، يضع مصلحة الشعب فوق الانقسامات الإثنية والجهوية، ويفتح مسارات تفاوضٍ مدني تحمي الهوية الوطنية وتُحيد التوظيف الخارجي.
ثالثاً. تحصين المجتمع المدني وبناء قدراته في مجالات التمثيل والمساءلة والوعي الحقوقي، حتى لا تبقى المكونات الاجتماعية رهينةَ الاصطفافات أو التمويلات السياسية.
رابعاً. تبني استراتيجية دفاعية ودبلوماسية ذكية تدرك أن عسكرة الخطاب تُفقد الشرعية، وأن حماية السيادة الوطنية لا تتحقق بالصراع بل بإنتاج بيئة سياسية تقلل من مكاسب التوتر وتحد من فرص التدخل الإقليمي والدولي.
إن تفعيل هذه المسارات لا يعني رفع شعاراتٍ جديدة، بل إعادة تعريف شروط البقاء السياسي في بيئة إقليمية تتحرك فيها الخرائط بسرعة وتُعاد فيها صياغة موازين النفوذ. والنجاح في تحويل هذا الإطار إلى ممارسة عملية هو ما سيجعل من خطاب المواطنة واقعاً مؤسساً لا وعداً مؤجلاً، ويعيد للدولة الإرترية مركزها وكرامتها ودورها الإقليمي في معادلةٍ أكثر توازناً واستقلالية.
الخلاصة: ريطة النفوذ….بين فراغ الدولة ورمزية البحر الأحمر
في الخاتمة، تتبدى ملامح المشهد الإقليمي على نحوٍ يشي بأن البحر الأحمر لم يعد مجرد ممر مائي استراتيجي، بل تحول إلى فضاء مزدحم بالتقاطعات السياسية والرمزية. فالمسألة لم تعد في جوهرها صراعاً على الموانئ أو الموارد فحسب، بل هي انعكاس لتحولات عميقة في بنية الدولة ومفاهيم السيادة ضمن الإقليم الممتد من ضفاف عصب إلى ضفاف جيبوتي ومضيق باب المندب. هذا التحول يعيد تعريف “القدرة البحرية” من منظور رمزي واستثماري في آن واحد، إذ باتت الدول والقوى غير الدولانية توظف الخطاب البحري كوسيلة لإعادة إنتاج شرعيتها أو توسيع مجال نفوذها.
وهنا يظهر البعد الأكثر حساسية في المعادلة: الاستثمار الإقليمي والدولي في الخطاب الرمزي وفراغ الدولة. فحينما تضعف الدولة المركزية أو تنكمش عن فضائها الطبيعي، تتكاثر الفاعليات الرمزية التي تتحدث باسمها أو تدّعي تمثيل مصالحها. هذا ما نراه بوضوح في الحالة الإرترية؛ حيث الفراغ المؤسسي والسياسي فتح الباب أمام قوى محلية وإقليمية لإعادة صياغة المعاني الوطنية نفسها: من البحر كرمز للسيادة، إلى البحر كمجال للاستثمار السياسي والاقتصادي وحتى العسكري.
في هذا السياق، تتحول الخطابات إلى أدوات نفوذ أكثر منها أدوات وعي وطني. فكل طرف يوظف الرمزية البحرية وفق حساباته: بعضهم لتمديد المجال الحيوي العرقي أو السياسي، وبعضهم لتثبيت حضوره في موازين القوى الإقليمية، وآخرون لتبرير التدخل تحت غطاء “الاستقرار” و“الأمن البحري”. النتيجة أن البحر الأحمر بات مسرحاً مفتوحاً تتقاطع فيه مشاريع الحماية، والتمدد، والمصالح العابرة للحدود، دون وجود مرجعية وطنية أو إقليمية حقيقية تضبط إيقاع التفاعلات.
وهذا يفضي إلى خلاصة : إن غياب الدولة الفاعلة لا يعني غياب السياسة، بل إعادة توزيعها على قوى فرعية وإقليمية تتحرك داخل الفراغ ذاته. وبالتالي فإن أي قراءة لمستقبل البحر الأحمر والقرن الأفريقي لا يمكن أن تكون دقيقة ما لم تستحضر هذا البعد البنيوي: أن الصراع لم يعد بين دول قوية، بل بين رموز تبحث عن شرعية على أنقاض الدولة نفسها.
بهذا المعنى، فإن الاستقرار المنشود في الإقليم لن يتحقق عبر سباق الموانئ أو عسكرة البحر، بل من خلال إعادة تأسيس المعادلة السياسية على قاعدة استعادة الدولة لفضائها الرمزي أولاً، والسيادي ثانياً. فحين تستعيد الدولة معناها، يتراجع الاستثمار الخارجي في ضعفها، وحين تتماسك مؤسساتها، تفقد القوى الرمزية غير الدولانية قدرتها على إعادة تعريفها من الخارج.
