مقالات وآراء

أ.إبراهيم قارو: إثيوبيا وإرتريا والقوى الإقليمية..استراتيجيات الصراع في البحر الأحمر 

إثيوبيا وإرتريا والقوى الإقليمية..استراتيجيات الصراع في البحر الأحمر  …

توطئة: طبيعة الصراع

يشهد القرن الإفريقي اليوم صراعاً لا يمكن اختزاله في نزاع حدودي تقليدي أو احتمال حرب استنزاف عابرة بل ينظر إليه باعتباره صراع مشاريع متناقضة يعيد صياغة مفهوم الدولة والشرعية والمركز في الإقليم.

من أجل فهم أعمق لطبيعة هذا الصراع، لا بد من العودة إلى جذوره التاريخية الممتدة منذ الحرب الإثيوبية–الإرترية بين عامي 1998 و2000 والتي لم تكن مجرد نزاع حدودي على بادمي بقدر ما كشفت عن تناقضات بنيوية في رؤية كل طرف لموقعه في الإقليم. فالتحولات التي تلت تلك الحرب، مروراً بالاتفاق الملتبس لعام 2018 وصولاً إلى تداعيات حرب تيقراي تمثل محطات أساسية لإدراك أن ما يجري اليوم هو امتداد لمسار طويل من صراع المشاريع وليس مجرد حادثة ظرفية مرتبطة بالبحر الأحمر أو المنافذ البحرية.

المشروع الاثيوبي:إعادة تعريف المركز والشرعية

إثيوبيا المحاصرة جغرافياً والمثقلة بأزماتها البنيوية تنطلق من رؤية تعتبر أن غياب المنفذ البحري ليس عائقاً اقتصادياً فحسب بل يُعد تهديداً وجودياً يقوّض إمكانية إعادة إنتاج الدولة لجعلها مركزا إقليميا. من هنا يتحول البحر الأحمر إلى عنصر تأسيسي في مشروع إثيوبي يسعى لإحياء دور “إثيوبيا الكبرى” حيث ربطت السلطة تاريخياً قوتها بالقدرة على الوصول إلى البحر.

 هذه الرؤية تُقدَّم اليوم بوصفها مشروعاً قومياً متجدداً يهدف إلى فرض حضور إثيوبيا في المعادلات السياسية والاقتصادية والعسكرية للإقليم. إلا أن هذا الطموح يتعارض مع مأزق داخلي معقّد- دولة فيدرالية مأزومة وصراعات قومية متفاقمة يحاول آبي أحمد تجاوزها عبر تصدير الأزمة للخارج مستخدماً خطاب “البحر” آلية للهروب إلى الأمام وهو ما يضعه في مواجهة مباشرة مع إرتريا والدول العربية المطلة على البحر الأحمر بل يعمّق أيضاً عزلة أديس أبابا الخارجية ويضع إرتريا في موقع الطرف المستفَز الذي يمتلك مبرراً للتمسك بموقفه وطلب الدعم الإقليمي أو الدولي.

مشروع ارتريا: إدامة السيولة وتحالغات تكتيكية تفكيكية

وفي المقابل يرى النظام التسلطي في إرتريا أن نجاح المشروع الإثيوبي يمثل تهديداً مباشراً لبقائه حيث إن استقرار وهيمنة إثيوبيا سيؤدي إلى ابتلاع استقلاله البنيوي وتجريد نظامه من مبررات وجوده. وعليه تتبنى إرتريا استراتيجية قائمة على إدامة حالة السيولة في توازنات القوى واستخدام التحالفات أدوات تكتيكية ظرفية لمنع تشكّل مركز إقليمي مهيمن.

هذا النهج يكشف أن المشروع الإرتري لا يقوم على تعزيز السيادة الوطنية أو بناء مؤسسات دولة مستقلة، ولكنه يقوم على إدامة سلطة أمنية–قمعية تُحوّل الموقع الجغرافي لإرتريا من مورد استراتيجي للتنمية إلى أداة للمساومة المستمرة مع القوى الدولية والإقليمية. وهكذا يصبح البحر الأحمر بالنسبة لإرتريا ليس مجالاً لتعزيز استقلالها بل يعتبر مسرحاً دائماً لإعادة إنتاج الصراع بوصفه شرطاً لبقاء النظام، في مواجهة مشروع إثيوبي يرى في البحر مفتاحاً لإعادة بعث الدولة من جديد.

صراع البحر الأحمر: مأزق التفاوض المؤجل

​لم تكن الأنباء المتداولة حول استعداد النظام الإرتري للتفاوض مع إثيوبيا بشأن ميناء عصب أو الوصول البحري انعطافة استراتيجية حقيقية بل كانت انعكاساً لمأزق بنيوي يواجه سلطة استنزفت أدواتها التقليدية. فالرئيس أسياس أفورقي الذي شيد حكمه على جهاز أمني مُحكَم وخطاب “التحرير” كغطاء لغياب الشرعية الشعبية وجد نفسه مجبراً على تبني خيار تفاوضي تكتيكي. هذا الخيار لا يهدف لحل الصراع بل الهدف منه إطالة عمر نظام يتآكل من الداخل. بالتالي تُقرأ إشارة التفاوض هذه ليس كمبادرة واثقة وإنما كـاعتراف ضمني بالعجز عن فرض الوقائع منفرداً لتتحول “التسوية” إلى محاولة للهروب إلى الأمام في ظل ضغوط إقليمية ودولية متزايدة.

التصعيد الإثيوبي: عسكرة الملف وغطاء الأزمات الداخلية

​هذا المناخ الذي بدا وكأنه يمهد لمسار تفاوضي سرعان ما انقلب رأساً على عقب مع البيان الأخير الصادر عن وزارة الدفاع الإثيوبية. البيان لم يكتفِ بتأكيد حق إثيوبيا في البحر الأحمر، بل رفع الخطاب إلى مستوى عسكرة الملف، معتبراً إياه جزءاً من “الكرامة الوطنية”، ومُعادلاً في رمزيته لمشروع سد النهضة. لقد كانت لغة البيان تحريضية صريحة وصلت حد وصف رفض المطالب الإثيوبية بـ”اللصوصية” ما كشف عن انتقال أديس أبابا من مرحلة التلميح الدبلوماسي إلى مرحلة التصعيد المباشر.

​يعكس هذا الخطاب أولاً محاولة مكشوفة لـتغطية التصدعات الداخلية في إثيوبيا. فالحكومة التي تواجه اقتصاداً منهكاً وتمردات إثنية متواصلة وتآكلاً في شرعيتها السياسية تسعى إلى صناعة “قضية كبرى” لتوحيد الإثيوبيين خلفها. وهنا يتضح أن البحر الأحمر بالنسبة لرئيس الوزراء آبي أحمد ليس مجرد ملف جيوسياسي بل أداة لإعادة إنتاج الوطنية الإثيوبية في سياق مأزوم. لكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر حيث أن توظيف الخطاب القومي في بلد قائم على توازنات هشة قد يزيد من عمق الانقسامات الإثنية ويحول “القضية الوطنية الجامعة” إلى أداة إضافية للاستقطاب الداخلي.

الارتدادات الإقليمية والدولية: تحدي السيادة الإرترية والقانون الدولي

​إقليمياً يمثل بيان وزارة الدفاع الإثيوبي تهديداً مباشراً لإرتريا حيث يضع ميناء عصب – قلب السيادة الإرترية – في صلب الصراع. هذا الموقف يفتح الباب أمام احتمال انزلاق التوتر إلى مواجهة عسكرية ويعكس في الوقت نفسه نزعة توسعية واضحة تستعيد سرديات الهيمنة التاريخية الإثيوبية على جيرانها. كما ستجد دول الإقليم لاسيما جيبوتي والسودان نفسها معنية بالتصعيد بحكم حساسية التوازنات الجغرافية والسياسية إذ سيكون لأي انفجار في العلاقة الإثيوبية–الإرترية تداعيات مباشرة على البحر الأحمر ككل بما يحمله من مصالح حيوية للدول الخليجية والقوى الدولية.

​دولياً يُعد البيان تحدياً لإرادة القوى الكبرى التي تفضّل استقرار الممرات البحرية على مغامرات عسكرية جديدة. ورغم محاولة أديس أبابا إضفاء شرعية قانونية على مطالبها بالاستناد إلى “القرب الجغرافي” فإن هذا التبرير هش ولا يجد له سنداً في القانون الدولي الذي يكرّس سيادة إرتريا على موانئها. بالتالي، فإن رفع سقف المطالب الإثيوبية لا يضعها في موقع قوة بل يعمّق عزلتها ويزيد من اعتمادها على تعبئة داخلية هشة. 

الخيارات المحدودة لأسمرا ومأساة الشعب الإرتري

​استُقبل تصعيد اللهجة العسكرية لوزارة الدفاع الإثيوبية  في أسمرا بوصفه تحدياً مباشراً للسيادة الوطنية. النظام الإرتري الذي لم يُبدِ مرونة سوى عبر إشارات التفاوض المشاعَة وجد نفسه أمام خطاب عسكري إثيوبي يسدّ أمامه أي هامش للمناورة. وبناء على هذا فإن ردُّ أسمرا المحتمل لن يخرج عن مسارين رئيسيين-  إما التمسك بخطاب متشدد يرفض أي نقاش حول “حق إثيوبيا في البحر” أو الذهاب نحو تحركات دفاعية وسياسية مضادة لتعزيز موقعها الإقليمي. في كلتا الحالتين لم يفتح البيان الإثيوبي جبهة توتر جديدة فحسب بل أعاد الصراع إلى نقطة الصفر مؤكداً أن المسألة تتجاوز ميناء أو منفذاً بحرياً لتصبح إعادة تعريف لمن يمتلك الشرعية لقيادة القرن الإفريقي.

​في الجوهر ما يتكشف هنا ليس مجرد سجال حدودي بل صراع مشاريع متناقضة: مشروع إثيوبي توسعي يسعى لفرض ذاته قوةً محورية عبر البحر في مواجهة مشروع إرتري يقوم على تعطيل موازين الإقليم للحفاظ على استمرارية سلطة أمنية بلا قاعدة شرعية. وفي قلب هذا الصراع يبقى الشعب الإرتري هو الضحية الأكبر إذ يُدفع لتحمل كلفة مواجهة مفتوحة لا يملك قرارها ويُساق مرة أخرى ليكون درعاً لمشروع سلطوي مغلق يستهلك حاضره ومستقبله باسم “حماية السيادة”. هذه الحقيقة تجعل من البحر الأحمر اليوم ساحة لا تحدد شكل الصراع بين دولتين فحسب بل ترسم أيضاً حدود المأساة المستمرة لشعب حُرم من حقه في دولة طبيعية وشرعية.

البعد الإقليمي والدولي للصراع

ولا يمكن فهم هذا الصراع دون إدراك موقع البحر الأحمر في حسابات القوى الإقليمية والدولية. فالمحيط العربي الممتد من القاهرة إلى الخليج، لا يستطيع التعامل مع البحر الأحمر بناء على إنه فضاء اقتصادي فقط بل كجزء لا يتجزأ من أمنه القومي حيث تتعارض مصالح قناة السويس مع ممرات النفط والغاز وباب المندب. ومن ثم فإن أي مواجهة إثيوبية–إرترية ستتجاوز حدود البلدين لتنعكس مباشرة على أمن المنطقة العربية وتجعل من استقرار البحر الأحمر قضية عربية بامتياز. أما القوى الكبرى من الولايات المتحدة إلى الصين مروراً بالاتحاد الأوروبي فإنها تتعامل مع البحر الأحمر باعتباره موقعا لإدارة التوازنات لا لإنهاء التوتر. فالمصالح المتشابكة في اليمن والقرن الإفريقي تجعل القوى الكبرى تفضّل إبقاء مستوى معيّن من التوتر قائماً باعتباره أداة لإعادة تشكيل النفوذ، أكثر من سعيها إلى فرض حل نهائي ومستقر.

جوهر الأزمة: من يمتلك شرعية المركز؟

الصراع الراهن لا يتوقف عند حدود النزاع على الموانئ، بل يتجاوزها ليطرح سؤالاً أعمق حول الدولة المركزية” في الإقليم. فالمسألة الجوهرية هي من يمتلك الشرعية لفرض قواعد اللعبة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر: هل هي إثيوبيا بما تحمله من ثقل ديمغرافي وجغرافي أم إرتريا بما تملكه من موقع استراتيجي على الممرات البحرية؟ هذا التنافس يعيد صياغة مفهوم الشرعية السياسية في المنطقة، حيث لم يعد الأمر متعلقاً بالسيادة الوطنية بقدر ما هو مرتبط بالقدرة على إدارة الإقليم وتوجيه مساراته.

إن ما يجري اليوم ليس مجرد احتمال حرب استنزاف، بل هو صراع مشاريع كبرى تتعارض فيها الطموحات الإثيوبية بإعادة إنتاج مركز توسعي مع المشروع الإرتري الذي يهدف إلى تفكيك أي مركز منافس يهدد استقلاله البنيوي. وبين هذين المشروعين يفرض البحر الأحمر حضوره باعتباره شرياناً للأمن العربي وممراً استراتيجياً لا يمكن فصله عن حسابات القاهرة والخليج. وفي الوقت نفسه، تدير القوى الكبرى هذا المشهد عبر توازنات دقيقة تمنع أي طرف محلي من الهيمنة المنفردة، وتجعل من استمرار التوتر وسيلة لإعادة صياغة النفوذ الدولي والإقليمي.

المآلات المستقبلية: تفكيك السيناريوهات المحتملة

​يمكن تفكيك مآلات الصراع بين إثيوبيا وإريتريا ضمن ثلاثة اتجاهات متداخلة تتفاوت في احتمالية تحققها:

  • ​سيناريو التصعيد العسكري المباشر: يظل احتمال اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة قائماً، خاصة إذا أصرت أديس أبابا على المطالبة بدعوى”حقها التاريخي” في الوصول القسري إلى البحر. هذا السيناريو محفوف بمخاطر جمة بسبب هشاشة الداخل الإثيوبي وتشققاته الإثنية والسياسية كما أن أي مواجهة ستنعكس كارثياً على المدنيين لاسيما الشعب الإرتري الذي يستخدم نظامه السلطوي الصراع كوسيلة للبقاء وتكبيل حقوقه الأساسية.
  • ​سيناريو التسوية التفاوضية المُدارة: يُعد هذا الاحتمال الأكثر واقعية وقابلية للتحقق ويقوم على الوصول إلى صيغة تفاوضية بضغط إقليمي ودولي. تهدف هذه الصيغة إلى منح إثيوبيا منفذاً بحرياً اقتصادياً عبر ترتيبات طويلة الأمد (مثال: اتفاقيات تأجير أو تشغيل مشترك) دون المساس الجوهري بـالسيادة الإرترية على موانئها. هذا السيناريو يعكس إدراك الطرفين لمحدودية قدرتهما على خوض حرب شاملة ويوازن بين الحاجة الإثيوبية للمتنفس الاقتصادي والضرورة الإرترية لحماية سيادتها.
  • ​سيناريو هندسة التحالفات غير المباشرة: وهو خيار أقل وضوحاً يركز على استثمار النزاعات المحيطة في السودان وجيبوتي واليمن كمساحات تفاوضية غير مباشرة لـتخفيف التوتر المباشر بين أديس أبابا وأسمرا. هذا المسار قائم في حال تعثر السيناريوهين السابقين، ويعتمد على تفعيل دور الوسطاء الإقليميين والدوليين.

تداعيات الصراع على الشعب الإرتري ومقترحات الحلول

​في جميع المآلات يبقى الشعب الإرتري هو الطرف الأكثر تضرراً؛ حيث يستغل النظام الذي يفتقر للشرعية الداخلية الأزمة البحرية لتكريس سلطته مما يؤدي إلى تعطيل التنمية الاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر والنزوح وتضييق الحريات الأساسية. أي تصعيد عسكري أو استمرار لحالة التوتر سيضاعف من معاناة المواطنين ويجعل البحر الأحمر ساحة استهلاك لموارد الشعب. لذا تبدو الحاجة ملحة إلى مقاربات متعددة الأبعاد تتضمن:

  • ​تعزيز الدبلوماسية متعددة الأطراف: عبر منصات مثل الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، لتأمين ترتيبات تضمن حماية السيادة الإريترية مع منح إثيوبيا امتيازات اقتصادية مضمونة.
  • ​آليات تشغيلية مشتركة: وضع آليات عمل للموانئ تضمن الاستفادة المتبادلة دون المساس بالسيادة.
  • ​دعم الحوار الداخلي في إريتريا: ربط أي تسوية إقليمية بدعم الحوكمة وتوسيع المشاركة المجتمعية وإصلاح المؤسسات في إريتريا، لتقليل اعتماد النظام على التهديد الخارجي كوسيلة للبقاء.

​في الختام إن ما يجري في البحر الأحمر هو صراع وجودي على تعريف “المركز الإقليمي”؛ بين مشروع إثيوبي توسعي ومشروع إرتري يسعى لتفكيك أي مركز منافس لضمان استمرار سلطته. من المرجح أن يستمر هذا الصراع على مستويات متعددة (دبلوماسية، عسكرية، تحالفية)، وسيظل الشعب الإرتري هو الحلقة الأضعف. إلا أن تعزيز الحوكمة والمشاركة المجتمعية في إرتريا يبقى السبيل الوحيد لضمان استقرار البحر الأحمر وتحويله من ساحة للصراع إلى منطقة تحدد مصير القرن الإفريقي لصالح شعوبه.

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى