الشهيد عمر المختار والمجندين الارتريين في الكتائب الإيطالية بليبيا قضية مثار جدل
تعد المناقشة العلمية والفكرية من أبرز الظواهر الصحية في المجتمع، عندما تكون هي السائدة والرائجة في الحوار بين النخب بشأن النقاط محل الخلاف، وموضوع المقال هو مسألة أسر الشهيد عمر المختار من قبل المجندين الارتريين في الجيش الإيطالي التي ذكرتها في بودكاست الجزيرة منسوبة إلى الباحث السياسي الليبي الدكتور محمد يوسف المقيرف.
وهي محل الخلاف الذي أثاره الدكتور إدريس موشي، حين خصها بمقال عززه بمراجع ومصادر في نفي ما ذكرته في البودكاست منسوبا إلى الدكتور الليبي ذاك، محاولا إثبات عكسه ونقيضه.
وكنت أوردت المسألة في سياق بياني لحالة التردي والانتكاسة العقدية التي شملت نطاقا واسعا من المسلمين في دار الإسلام، بحيث أوصلتهم إلى حالة من الضعف والهوان التي لم تقتصر وتنحصر على تمكن المستعمر من السيطرة على أرضهم فحسب، وإنما مكنته أيضا من رقابهم واللعب بعقولهم، والعبث بمقدراتهم؛ ليتخذ منهم جنودا في جيشه، يقتل بعضهم بعضا، وأكدت أنها حالة عامة وليست خاصة بشعب دون شعب، وهذا ما سمعه مني مقدم البرنامج ووافقني عليه.
ولكن الدكتور إدريس استلها من سياقها العام وأفردها بالحديث مسلطا عليها الضوء الساطع، ولو أنه أخذها في سياقها الذي جاءت فيه، لما فعل الذي فعل – فيما أظن وأحسب – ويقول علماؤنا: السياق والسباق من مبينات المبهمات وموضحات المشكلات.
ويظهر لي أنه غلبته غيرتُه الوطنية على ما يسميه هو (الأمة الإرترية) وعز عليه أن تتهم هذه الأمة بالذي اتهمت به من أسر المجاهد الشهيد عمر المختار، فكتب الذي كتب، وقال الذي قال، وكذب أو شكك في مصداقية رواية الدكتور الليبي محمد يوسف المقيرف، جازما بعدم صحتها من منطلق المصادر التي اعتمدها.
ومع أن الغيرة الوطنية محمودة في ذاتها، إلا أنها تكون أكثر تهذيبا، وأحسن جمالا متى انضبطت بالموضوعية؛ لأنها بافتقارها إلى الموضوعية تجحف في حق من تناقشه وتحاوره في القضية محل الخلاف، وهي هنا أسر الشهيد عمر المختار من المجندين الارتريين في الكتيبة التي طوقته، وراويها هو السياسي المعارض لنظام القذافي الدكتور الليبي محمد يوسف المقيرف الذي نسبت إليه أنا المقولة، وبالمناسبة هو صاحب كتاب (ليبيا بين الماضي والحاضر) من ثلاثة أجزاء.
ومع أن الموضوعية شرط أساس في البحث العلمي، إلا أنه يصعب امتثالها بنسبة كبيرة خالية من أي كدر، وتعني أول ما تعنيه التجرد من عواطف الانتماءات الوطنية أو العرقية أو الفكرية والدينية، وأيضا من مؤثرات الحب والكراهية، وتكون خالصة للذي ندب له الباحث نفسه، قاصدا الحقيقة أو ما يقرب إليها ويوصل إلى أبوابها كما هي.
ومن مقتضيات ذلك وضرورياته أن يتقصى الباحث القضية من كل أطرافها، ويلملم شتاتها من كل جوانبها، ويجمع كل ما تفرق منها وما قيل فيها بالقدر الكافي، ولابد أن يطرقها بالشك المنهجي، حتى لا يكون انتقائيا يكتب ما يخدم فكرته المسبقة، ويهمل ما يعارضها، وحتى يصل إلى النتيجة المتوازنة، وإلا كان عجولا في نتيجته البحثية، وعاطفيا أكثر منه موضوعيا.
ولأني لست مؤرخا ولا باحثا متخصصا في التاريخ، ولكني قارئ له بلهف،
ومتأمل فيه بشغف، وراوي عنه بإحالة، وبخاصة الذي يتعلق منه بمنطقة القرن الأفريقي بعامة، والحبشة بخاصة، من حيث تركيبتها السكانية، والهجرات التي توافدت إليها، والصراعات التي شهدتها قديما والتي ما زالت تشهدها حديثا، فإني سأتخذ من دراسات المتخصصين المنشورة في مراكز أبحاث علمية، ومجلات محكمة مصدرا لي ومرجعا، وسأنقل منها بالنص حرفيا مع الاختصار متى ما رأيت ذلك أفضل وأجمل، وبين يدي مصدران هما:
أولا: العساكر الارتريون في مواجهة مقاومة عمر المختار في ليبيا 1923 – 1931م.
وهو للدكتور أحمد عبد الدايم محمد حسين، مدرس التاريخ الحديث والمعاصر، معهد البحوث والدراسات الأفريقية، جامعة القاهرة.
ثانيا: القوات المساعدة للجيش الإيطالي إبان إعادة احتلال برقة – المجندين الإرتريين أنموذجا 1923 – 1931م.
وهو للباحثين: المبروك محمود صالح سليمان، وصلاح سالم عبد المولى حسين، وكلاهما من جامعة طبرق بليبيا، ونشر البحث بتاريخ 30/12/2022 في (المجلة الجزائرية للدراسات التاريخية والقانونية المجلد 7 العدد 3 – 2022م، ص 31 – 51).
وإذا كان الأخ الدكتور إدريس موشي أورد من الأبحاث التي اطلع عليها ما يعزز وجهة نظره، فأنا سأبرز الوجه الآخر المخالف، من خلال هذين البحثين المذكورين أعلاه، والمحكمين علميا، حتى تكتمل الرؤية من كل جوانبها، وأترك الأمر في نهاية المطاف للقارئ الكريم، حتى يقرر ما يراه معقولا ومقبولا في نظره، وثم ليعلم أن ثمة أقوال أخرى غير التي ذكرها الدكتور إدريس، تستحق الذكر والالتفاتة.
وهو ما يجيب على سؤال الأخ صلاح أبوراي الذي طرحه على الدكتور إدريس موشي، كما قرأته في التعليقات: لم تجد رواية واحدة ولو ضعيفة تذهب إلى الذي ذهب إليه الدكتور جلال الدين لتذكرها وتشير إليها؟.
وسأسرد هذه النقولات على النحو التالي:
أولا: نقولات من بحث الدكتور أحمد عبد الدايم محمد حسين.
ويؤكد الدكتور أحمد وهو يبين الأسباب التي دعته إلى الكتابة في الموضوع دور المجندين الإرتريين في مواجهة الشهيد عمر المختار، فيقول في صفحة رقم 1: “إن الدور الذي لعبه العساكر الإرتريون في إنهاء هذه المقاومة لم يلتفت إليه أحد، رغم أنهم بشهادة الإيطاليين أنفسهم ثلاثة أرباع القوات التي واجهت عمر المختار، وأنه وقع عليهم العبء الأكبر في هذه المواجهة “.
وفي سرده لتساؤلات الدراسة التي أوردها في الصفحة نفسها أذكر منها الأهم في نظري على النحو التالي:
- هل الدور الذي لعبه الليبيون في قتال الحبشة فيما بعد، عام 1935م، جاء لاختلاط الأمر عندهم بأن الأحباش – الوصف الذي كانت تطلقه المقاومة الليبية على الجنود الارتريين – هم الذين ذاقوا الويلات على أيديهم … ومن ثم لابد من الثأر منهم؟
- وما هوية هؤلاء العساكر الإرتريين الذين قاتلوا بشراسة وعنف، إسلامية أم مسيحية؟
- وهل يمكن تبرير ما فعله هؤلاء العساكر بأنه لا يختلف عما فعله فريق من الليبيين أنفسهم خلال عمليات المقاومة؟
وتحت عنوان: إيطاليا وتجنيد العساكر الارتريين ذكر أكثر من سبب هي:
- التجنيد الإجباري بإلزام زعيم كل عشيرة إحضار عدد معين من الشباب
- الاعتماد على العساكر المرتزقة من الارتريين، حيث عملت إيطاليا على إغراء الارتريين مستغلة فيهم الجهل والفقر.
وفيما يتعلق بهويتهم الدينية هل هم مسلمون أم مسيحيون؟ قرر الدكتور أحمد ما يلي:
- أنه لا يمكن القطع بالهوية الدينية لهؤلاء العساكر في ظل إشارة البعض بأنهم خليط من المسلمين والمسيحيين والوثنيين … ورغم أنه ليس من المستبعد أن يكون ضمن العساكر الارتريين جنود مسلمون إلا أن الأدوار القذرة التي قام بها هؤلاء العساكر تجعلنا نستبعد أن يكون غالبية تشكيل العساكر من المسلمين.
وخرج الباحث في خاتمة بحثه بعدد من النتائج أوردها، أذكر منها ما أراه مهما على النحو التالي:
- أثبتت الدراسة بأن الكتائب الارترية كانت موزعة عبر أنحاء ليبيا
- أثبتت الدراسة أن عام 1922م، هو عام الظهور الحقيقي للعساكر الإرتريين في ليبيا
- من خلال الكتائب التي رصدناها عبر الدراسة يمكننا طرح رقم 23450 عسكريا إرتريا كعدد إجمالي للعساكر الذين عملوا في الكتائب الارترية، ومع ذلك لا تدعي الدراسة أن هذا العدد هو العدد النهائي
- استنتجت الدراسة بأنهم كانوا السبب الرئيس في حسم المعركة مع حركة المقاومة الليبية، سواء من خلال أساليبهم القتالية … أو من خلال الممارسات القبيحة والدنيئة والعنيفة التي مارسوها ضد المجتمع الليبي.
ثانيا: نقولات من بحث المبروك محمود صالح سليمان، وصلاح سالم عبد المولى حسين
وخرج الباحثان المذكوران بنتائج عدة أورد منها ما يلي:
- شكل المجندون الارتريون عنصرا مهما ضمن القوات الإيطالية المحتلة ليبيا، وهو ما يؤكد دخولهم في أغلب المعارك ضد المجاهدين الليبيين ببرقة
- إن منح الإيطاليين رتبا عسكرية للمجندين الارتريين إنما يشير إلى أن إيطاليا كانت ترى بأن الارتريين قوة مساندة
- إن ثقة الإيطاليين بالمجندين الارتريين جعلتهم يستخدمونهم حراسا عليهم، ناهيك عن تكليفهم بحراسة عمر المختار حينما تم أسره.
تعليقي على هذه النقولات
وإلى هنا تنتهي النقولات من هذين المصدرين الأكاديميين، وإن كان لي من تعليق لابد أن أقوله، فإني أوجزه في الآتي:
أولا: بناء على الرقم الذي ذكره الدكتور أحمد ( 23450) عسكريا، قاتلوا بشراسة وعنف، وبناء على قوله في أنه كان لهم الدور الحاسم في هزيمة المقاومة الليبية، وبالإضافة إلى ما ذكره الباحثان من جامعة طبرق المبروك محمود صالح سليمان، وصلاح سالم عبد المولى حسين، من أن العساكر الإرتريين كانوا محل ثقة عند الإيطاليين، وإليهم أوكلوا حراسة القائد الأسير الشهيد عمر المختار، تعد كلها قرائن قوية ترجح أنهم من كان وراء القبض عليه.
وهو ما لا يصح معه نفي المصداقية عن كلام الدكتور محمد يوسف المقيرف، في برنامج شاهد على العصر، ومن حق الأمانة العلمية الاعتذار له فيما اتهم به من عدم الدقة فيما ينقل ويروي.
ثانيا: فيما يتعلق بسياسة التجنيد اتفق مع الدكتور أحمد في أنها كانت إجبارية في معظم المجندين، كما كان بعض المجندين مرتزقة أغرتهم السلطة الإيطالية وأغوتهم بالمال مستغلة فيهم الجهل والفقر.
ثالثا: وفيما يتعلق بهوية العساكر الارتريين الدينية، لا اتفق معه في استبعاده أن يكونوا مسلمين في غالبهم، بحجة قذارة الأدوار القتالية العنيفة غير الإنسانية التي قاموا بها ضد المجاهدين الليبيين، من باب صعوبة تصور وقوعها من مسلم، فإنها ليست دليلا حاسما؛ لإمكانية صدورها حتى من مسلم؛ للجهل الذي عم المسلمين، ولروح الارتزاق التي دعت بعضهم للتجنيد.
ومن ناحية أخرى أن إيطاليا ألزمت – كما ذكر هو – زعيم كل قبيلة بإحضار عدد من الشباب، ومعلوم أن هذه القبائل في كثير منها مسلمة، وهي قبائل المنخفضات الارترية.
رابعا: ومع كل ما قيل فليس في البحث العلمي بالنسبة للدراسات التاريخية والعلوم الإنسانية حقيقة قاطعة، ومقولة نهائية لا كلام ولا حديث بعدها، وإنما جل ما يقال احتمالات بقرائن يستأنس بها، وقد تكون قوية أو ضعيفة.
ولذا من الخطأ الكبير أن نجزم بصحة هذه الرواية دون غيرها، ولكن الأمر كما يفعل إمام المؤرخين ابن جرير الطبري يورد الرواية بنصها وسندها ثم يقول: والعهدة على الراوي.
وكتبه/ الأستاذ الدكتور جلال الدين محمد صالح
لندن
27/8/2025