مقالات وآراء

د. جلال الدين: الصراع في إرتريا بين النزعة الطائفية والهيمنة السلطوية في تحديد هوية نظام أفورقي

يدور جدل بين الارتريين بشكل مستمر وحاد في كثير من الأحايين، بشأن تعريف نظام أفورقي وتحديد هويته السياسية، هل هو نظام طائفي تحركه المشاعر والأحاسيس الكنسية في منطلقاته السياسية، أم هو نظام قومي لا يهمه بالدرجة الأولى والأساسية إلا تمكين قومه الأكسوميين التجرنيين من السلطة؟ أم هو نظام فرد تسلطي دكتاتوري غاية سعيه فرض تسلطه الذاتي علي الشعب الارتري كله؛ بغرض إشباع نهمة السلطة والتسلط في نفسه، وتعلقه بها كل التعلق؟.

وما أظن هذا الجدال يحسم قريبا، فسيبقى متواصلا حتى بعد سقوط النظام، وأذكر أن نقاشا واسعا دار بين الحضور المدعوين إلى لقاء أديس أبابا للمثقفين الإرتريين في ديسمبر 2010 م، وبدأ أول ما بدأ بتعريف النظام، حين طلب ذلك – بناء على جدول العمل – رئيس المنصة الوزير في حكومة ملس زناوي برخت سيمون.

وهنا طفا على السطح ذلك الخلاف، وظهر بين الحضور من قال: إنه نظام فرد دكتاتوري تسلطي.

وساعتها قلت معقبا ضمن المعقبين والمتداخلين: إنه ليس فقط نظام فرد دكتاتوري مولع بالسلطة لمجرد السلطة، وإنما هو نظام تجرنيوي الهوية بنزعة دكتاتورية؛ يعمل لتمكين مشروع شيوفينية التجرنية.

وأثار تعريفي هذا نفوسا من التجرنية الحاضرين، واحتجت عليه بشدة، وكان أعلاها وأرفعها صوتا السيد أمانويل صاحب قناة (أسنا) الذي وقف أمام الحضور وجها لوجه، منددا بهذا التعريف ومتهما إياه بإدانة قومية التجرنية.

وعندها رفعت إدارة منصة الحوار الجلسة لفترة لم تتجاوز – فيما أُقَدِّرُ – نصف ساعة، بغرض إجراء حوارات جانبية؛ للوصول إلى صيغة توافقية في تعريف النظام، وخلالها دار جدل ثلاثي بيني وبين المناضل جلال أبره مقاتل في الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا الذي شاطرني الرأي – رحمه الله – والمناضل في التنظيم نفسه سعادة السفير المنشق أدحنوم جبري ماريام، وقد خالفني بقوة وإصرار، نافيا وسمة الشيفونية التجرنية عن هوية النظام، ومتهما في الوقت نفسه أبناء السمهر في الجبهة الشعبية بمساندة إسياس أفورقي من خلال حزب الشعب الثوري الذي لم يكن فيه من التجرنية – حسب قوله – سوى مسفن حقوس وإسياس أفورقي.

وبعد أن استأنفت المنصة حوارها جرى الاتفاق على تعريف وصف النظام – حسبما يحضرني – بأنه تحالف بين مجموعة مصلحية بقيادة دكتاتورية يستغل قومية التجرنية في تمرير مشاريعه التسلطية.

ولاحقا في سياق الحوار عن القرن الأفريقي وتبايناته السكانية والثقافية سألني محاوري في بودكاست الجزيرة (الأثير) الذي بث مؤخرا في أواخر أغسطس 2025م، عن النزاعات السياسية في القرن الأفريقي قائلا: هذا التنوع الهائل ثقافيا ودينيا ولغويا والتشابه في المزاج في هذه المنطقة، في هذا القرن الأفريقي، كيف يمكن أن يستغل حتى تتقارب هذه الشعوب أكثر؛ لأني أنا لاحظت هناك انشقاق هائل ما بين هذه الدول، ليس سياسيا فحسب وإنما شعبيا، كيف يمكن استغلال هذا التنوع من أجل التقارب وهذا الميراث المشترك؟

وساعتها أجبته: ” يجب أن نتنبه أن التدافع سنة البشر، والتدافع في حقيقته سلطوي لا ديني، ويحدث بين المسلمين أنفسهم … الناس تريد السلطة، وربنا وجه نبيه إلى السلطة، إذن إذا حُلَّتِ السلطة، إشكالية السلطة والثروة إذا حلت، استقر الناس، الناس يأخذون الدين والعادات والتقاليد والقبليات من أجل السلطة، فهي وسائل، ولكن هنالك ناس يؤمنون بالدين، الذين يقودونهم مآربهم سلطوية، والسلطة هي المقصد لمآرب شتى، إما يكون صاحبها فرعونيا وهامانيا … وآخرون يقصدونها من أجل أن يعبِّدوا الناس لله رب العالمين … لكل مآربه ومقاصده، ولكن في النهاية السلطة هي المقصد … الحل هو أن توزع السلطة، فلا يتقاتل أهل السودان مثلا … سلطة يجب أن توزع .. في إرتريا ليس هناك صراع دينيالارتريون لا يتقاتلون أو لا يختلفون سياسيا من أجل أن يسوِّدُوا النصرانية أو من أجل أن يسوِّدُوا الإسلام أو اليهودية، وإنما يتصارعون من أجل السلطة والنفوذ الثقافي.

وهنا قال محاوري: “الطريق إلى ذلك هو أن نعرف كيف ندير الخلاف.. الخلاف لا يختفي من حياة البشر وإنما ينبغي أن نتعلم كيف ندير هذا الخلاف ونتحكم في هذا الخلاف”.

وأجبته: نعم هذا هو بالضبط والأديان تتعايش ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ العنكبوت: ٤٦… فليس هنالك إشكالية دينية وإنما آخرون يستغلون الدين من أجل مآربهم الخاصة “.

ولا أدري من أين فهم بعض المتابعين أن مؤدى كلامي هذا ليس هو إلا تبرئة إسياس أفورقي من نزعته الطائفية، بحكم أني وصفت الصراع بين الارتريين بأنه صراع سلطة وثروة لا صراع دين، مع أنه لا يلزم من إنكاري كون الصراع دينيا في إرتريا، تبرئة إسياس أفورقي من وسمة الطائفية الشيفونية الأكسومية، بكل ما تحمل من عصبية دينية ممزوجة بعصبية قومية؟!

والسردية كما أوردتها بنصها تتحدث في شطرها الأول بشكل عام عن علة التدافع الأساسية بين البشر، وتحددها في السلطة والثروة، وتطالب بحلها وتوزيعها بشكل عادل، وعندها تستقر الشعوب، والكلام فيها عام في تفسير علة التدافع البشري.

وعندما تناولتُ في شطرها الثاني الجانب الارتري، فإني لم أتطرق أبدا إلى أفورقي وهوية نظامه السياسي، وطبيعة الصراع معه، هل هو ديني أم سلطوي بشكل خاص.

ولم يرد هذا أبدا كما لم يرد اسمه في هذا السياق من هذه الفقرة، وإنما كل الذي ورد هو قولي: “في إرتريا ليس هناك صراع دينيالارتريون لا يتقاتلون أو لا يختلفون سياسيا من أجل أن يسوِّدوا النصرانية، أو من أجل أن يسوِّدوا الإسلام أو اليهودية، وإنما يتصارعون من أجل السلطة والنفوذ الثقافي“.

والكلام هنا عام عن إرتريا وطنا، والإرتريين مواطنة، وليس هو عن نظام أفورقي وطبيعة الصراع معه، وبقليل من التأمل والتركيز تجدني اختصرت على المصطلحات الآتية:

  • (إرتريا)
  • (الإرتريون)
  • (النصرانية)
  • (الإسلام)
  • (صراع ديني)

وكلها جاءت في سياق نفي أن يكون في حاضر إرتريا اليوم من حيث هي وطن لمعتقدات دينية متعددة صراع ديني، وأن يكون بين الإرتريين من حيث هم مواطنون قتال عدواني باعثه الدين.

وهذه حقيقة لا جدال فيها من وجهة نظري، وما أظن ثمة من يخالفني فيها، ففي حدود معرفتي ما شهد الارتريون منذ أن تكونت إرتريا قتالا عدوانيا عماده الدين فيما بينهم أبدا، ولا فيما مضى من تاريخهم، ولم تكن قبائل المنخفضات مثلا جزءا من حملة الإمام أحمد جري ضد الملوك الأكسوميين في الحرب التي جرت بينهم، مع ضرورة تحميل الكنيسة الأرثوذكسية إكراه الناس على اعتناق العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، ومسؤولية إضاعة استقلال إرتريا في الخمسينيات، عندما تحالفت مع الامبراطور هيلي سلاسي بدوافع طائفية معادية للإسلام.

ومصطلح (الدين) هنا وإن كان يتبادر إلى الذهن أنه (الإسلام) و(النصرانية) بحكم كثرة من يعتنقهما في المجتمع الارتري، إلا أنه مصطلح يشمل كل المعتقدات الدينية، بما في ذلك الوثنيات.

وأن الإرتريين في خلافاتهم السياسية الحالية لا ينطلقون في كثير منهم من منطلق إعلاء الإسلام وفرضه على الناس كرها، بما في ذلك الحركة الإسلامية، أو من إعلاء النصرانية من حيث هي عقيدة دينية وفرضها على الناس كرها، كما فعل يوحانس مثلا في إثيوبيا، وكما ينادى اليوم تنظيم الأجعزيان المتطرف إلى إجلاء المسلمين من إرتريا، والاستيلاء على أرضهم بعد تهجيرهم قسرا، ولكن يوجد فيهم من يستغل العصبية القومية والجهوية والقبلية والدينية، ويتخذ منها مجرد أدوات صراع يستنصر بها في الوصول إلى ما يريد من مكاسب سياسية.

ومع ذلك لا يعني هذا بأي حال من الأحوال انعدام الغيرة الدينية في نفوس الارتريين بعامة، وفقدان اندفاعهم بإخلاص للدفاع عن معتقداتهم، إذا ما شعروا أنها مهددة في وجودها وحريتها الدينية، فهذه خاصية موجودة فيهم؛ لأنهم شعب متدين، وبخاصة المسلمين منهم.

ولا يعني أيضا نفي النزعة الطائفية عن بعض ساستهم كليا، مسلمين كانوا أم مسيحيين، إما انتهازية لتمكين الذات وتحقيق مصالحها الخاصة، وإما تأثرا بتعبئة الدين الخاطئة والظالمة ضد معتنقي دين آخر.

وهي حالة مرضية لا يخلو منها مجتمع بنسب مختلفة، وليس من العدل حصرها في أتباع دين بعينه دون آخر من هؤلاء الساسة، فالسياسة عندهم – بنهجها المكيافيلي – لا أخلاق لها، ويمكن أن يوقظوا بها عصبية الدين توظيفا واستغلالا.

وظهر إسياس أفورقي في الساحة الارترية في الستينيات من القرن المنصرم، معلنا وثيقته المعروفة (نحنان علامانن) (نحن وأهدافنا) منطلقا من تحريك العصبية الدينية والقومية معا.

وعلى هذا الشعار كتَّل مجموعته (سلف ناظنت) وظل يعمل وفق استراتيجية المراحل بالتحالف مع هذا ضد ذاك، إلى أن حاز السلطة كاملة بيده، واليوم ها هو ينفذ مشروعه الطائفي القومي ضد المسلمين تحت عنوان الدولة العلمانية.

وهو من هذه الناحية – لا محالة – طائفي قومي أكسومي حتى النخاع، ويوظف كل ما يمكنه توظيفه من الكنيسة الأرثوذكسية الارترية، إلى دار الإفتاء الإسلامية الإرترية، ومن اليسار الماركسي المتطرف، إلى اليمين الليبرالي القابل للتوظيف من المسلمين وغير المسلمين، وعلى ظهر الماركسيين تسلق قمة السلطة، وفي غالبهم هم من ذراري المسلمين.

ولكن نحن لا نخوض معه صراعا دينيا، بمعنى مسلمون مقابل مسيحيين، ولا ينبغي أن نحشد الناس ضده على هذا المفهوم، وإنما نخوض معه صراعا سلطويا ضد نهجه الطائفي، نقصد من ورائه تفتيت السلطة على الجميع وليس احتكارها، كما احتكرها هو في المجموعة الأكسومية التجرنيوية، وبناء دولة التوافق الوطني، وبسط العدل الذي نحمله من خلال دولة دستورها وقانونها، مكان الظلم الذي يمارسه في غياب دولة القانون وسيادة دولة الفرد.

وبالتأكيد ليس كل المسيحيين الارتريين معه في مشروعه هذا، فهناك البينطا المحرومون من الاعتراف الرسمي بحقهم الديني، والمطاردون من قبله، وهناك الكاثوليك البلين، وهناك البروتستانت المنسع، وقد يوجد غيرهم.

وأمَّمَ مدارس هؤلاء جميعا، كما أمَّمَ معاهد المسلمين، واعتقل بطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية السابق، وفرض عليه الإقامة الجبرية حتى مات؛ لمجرد أنه رفض تدخلاته في شؤون الكنيسة، وهو ما يعني أن ليس كل قادة وأتباع الكنيسة الأرثوذوكسية يقفون معه بالضرورة.

ونعم المسلمون هم المتضرر الأكبر من نهجه هذا، بأضعاف مضاعفة، وإليهم وجَّه ضغطه بشدة وحدة، ولكن مهما كانت القرائن قوية في إثبات دوافعه الطائفية، وتفسير ممارساته الاستفزازية، فلا نستطيع أن نصف الصراع في إرتريا الدولة بأنه صراع ديني، كلا، إنه ليس كذلك.. إنه صراع سلطوي شامل، والسلطة في حد ذاتها مشكلة عامة بين المسلمين والمسلمين، والمسيحيين والمسيحيين، والمسلمين والمسيحيين، والمنخفضات والمرتفعات، باختصار أنها مشكلة الوطن كله، وهي نقطة التصادم فيه.

ومضايقة أفورقي ونظامه للإسلام آت من إدراكه وفهمه للإسلام من حيث هو دين يمس كل جوانب الحياة، وليس محبوسا بين جدران المسجد صلاة وصياما، كما هو شأن الكنيسة، والسلطة مقصد من مقاصده، ومنه جاء ما يعرف اليوم بمصطلح الإسلام السياسي.

وأنه من هذه الزاوية يمثل خطرا فكريا وسياسيا بالنسبة لمشروعه القومي الأكسومي، إذا ما ترك له المجال يعمل وينشط بحرية، هذا إلى جانب خلفيته الأكسومية المعادية بطبعها للإسلام والمتخوفة منه في تاريخها السياسي، من إحساسها بأنها أقلية مسيحية في محيط إسلامي.

ومن هنا لا يتورع عن جَرِّ البلاد والعباد إلى صراع ديني وجهوي يؤزم التعايش؛ ليكون هو الفائز بالسلطة والممسك بها، وليرثها من يخلفه عليها من حملة مشروعه.

ولعلكم تتذكرون أنه وصف حركة فورتو التي قادها (ود علي) العقيد سعيد علي حجاي، وخططت الانقلاب عليه وفشلت في 21 يناير/ كانون الثاني 2013 م، بأنها حركة إسلامية من أبناء الساحل، وذلك من أجل أن يرعب المسيحيين الأكسوميين تحديدا، ويحرك فيهم العصبية القومية والدينية، ويخوفهم بما يعرف اليوم بإسلام فوبيا، ويعمق حالة الحساسية الدينية بين المسلمين والمسيحيين التي انطلق منها هو في أصل تأسيسه لتنظيم سلف ناظنت، وإصدار وثيقته (نحن وأهدافنا)

وهذا هو حقيقة مشروعه، تفجير الصراعات المختلفة، دينيا وقوميا وعرقيا في المنطقة كلها، بإشعال الحرائق هنا وهناك، كان آخرها ما نعته بالسامية والأورومو الكوشية.

ومن جانبنا – نحن قوى المعارضة – علينا أن نحصر الصراع معه استراتيجيا في إطاره السلطوي فقط ولا نضفي عليه أي صبغة دينية، حتى نضمن سلامة الدولة من الانهيار الكلي، والتركيبة السكانية من التفكك الداخلي، ونحرمه هذه الغاية الإفسادية التي يعمل لها، وحتى لا نمنحه هذه الفرصة التي يتطلع عليها ويحلم بها، بتفسيرنا الصراع معه صراعا دينيا، وتعبئة الناس نحو هذه الوجهة الخاطئة.

ولكن في الوقت نفسه علينا أن لا نتردد في وسمه ونظامه بانتهاج السياسة الطائفية الشيفونية الأكسومية، وألا نتردد في اتهام سياساته هذه بتهديد الهوية الإسلامية في إرتريا بشكل ممنهج، ومعها الهوية الوطنية الجامعة بين كل الارتريين في دولة التوافق الوطني.

 

وكتبه/ الأستاذ الدكتور جلال الدين محمد صالح

 2/9/2025لندن

 

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى