مقابلة (زينا) مع البروفيسور عبد القادر صالح خليفة محمد
بروف عبد القادر صالح خليفةمحمد يتحدث لزينا
بعد محاولات متكررة فاشلة تمكنت من الهجرة.
النظام نكّل بالمسلمين والمسيحيين وإن تفاوتت الدرجات.
لا سبيل إلى الحكم الرشيد إلا عبر التوافق الوطني.
(الساھو) فيهم مسلمون ومسيحيون، ومن حقهم أن يُعرف بهم كتابي.
ضيف زينا هذه المرة أكاديمي متخصص في علم الاجتماع، حاز أرفع الألقاب العلمية في تخصصه، وعمل في جامعة أسمرا سنوات وشهد كل مرارتها.
طالب أن تكون الجامعة بعيدة عن السياسة، فنقم عليه النظام وفرض عليه إقامة جبرية.
منع من التدريس، وحرم من الراتب، و من أجل منعه من الهجرة إلى الخارج سحب عنه الجواز.
وبعد سنوات من المعاناة الصحية والنفسية والمعيشية استطاع الوصول إلى بر الأمان، وصل إلى النرويج ليكون جزءًا من الشخصيات الأكاديمية الرفيعة في إحدى جامعاتها، ومن هناك يتواصل عطاؤه لخدمة وطنه إرتريا.
سألناه عن كتابه حول الساهو فأجاب مستغربًا.
وسألناه عن طائفية النظام فأنكر، وعن مستقبل الحكم في إرتريا فطرح صيغة توافقية يرتضيها المواطنون.
يدعو إلى العدل والحكم الرشيد ليكون المواطنون سواء، لا ظالم ولا مظلوم.
البطاقة الشخصية
الإسم: عبد القادر صالح خليفة محمد إسماعيل، وله عم اسمه الشيخ علي خليفة محمد، وعمة سعيدة خليفة محمد إسماعيل رحم الله جميعا.
أصل العائلة من عدي قيح، وهناك مكان ميلادي وميلابي أبي. هاجر والدي إلى قلوج في البداية ثم استقر في منطقة تمرات. أصبح ممرضًا، وفي ذلك الوقت كانت الأمراض منتشرة بكثرة. كان عمي ووالدي منتميين إلى رابطة الشبيبة الإسلامية، ولذلك تعرضا للمطاردة.
ونتيجة لذلك هرب عمي إلى منطقة تسني ومنها إل السودان وأخيرا إلى مصر عام 1951،استقر هناك قبل ثورة 1952. أصبح شيخًا معروفًا في الرواق الخاص بالختمية، وتزوج من مصرية وأنجب منها سبعة أولاد. وكان يعمل شيخًا، يعلّم القرآن، ويعالج بالأعشاب والقرآن الكريم، ويعالج النساء بالأعشاب والأدوية. كان معروفًا جدًا بالشيخ خليفة علي الحبشي.
أما جدتنا زهراء موسى رحمها الله، فكانت امرأة عالمة، حافظة للقرآن، تعطي دروسًا في الوعظ، وتفسر الأحلام، وتُعرف بالشيخة العالمة. كان يذهب إليها المسلمون والمسيحيون على حد سواء لطلب العلاج بالأعشاب أو الاستشارة الدينية.
التعليم
بدأتُ أقرأ القرآن وعمري بين ثلاث وأربع سنوات. كانت الشيخة زهراء رحمها الله من النساء العالمات مثل الشّيخات المعلّمات الصالحات.
لقد ورث والدي وعمي وعمّتي هذا الإرث الديني المتجذر بعمق في قومية الساهو، وهو ارث عريق بين قبائل الساهو المختلفة.
وعندما استقر والدي في تمرات، انتقلت معه وهناك بدأتُ تعلم القرآن على يد الشيخ الجليل أبو زيد، وهو عالم معروف في المنطقة. درست في خلوته مع طلاب من مناطق مختلفة مثل كرن، منسع، بيجوك، النارا، والمرتفعات. لم أكن وحدي بل كانوا كُثرًا من أنحاء البلاد.
لاحقًا التحقت بالمدرسة النظاميةفي تسني، وقضيت هناك أعوامًا كاملة. كانت حياتنا مختلفة من مكان إلى آخر، لكننا كنا نعتز بخلفيتنا الدينية.
كان الاحترام كبيرًا لوالدي رحمه الله، ليس لأنه شيخ فقط، بل لأنه ممرض معالج الناس أيضًا. وفي تمرات جمع الأهالي، وأقنعهم بفتح مدرسة ابتدائية لأبنائهم. كتبوا خطابًا ووضعوا جداول أعمالهم جانبًا حتى ينجزوا الطلب، وبالفعل ساعدهم البوليس المحلي ووزارة التعليم في تسجيل أبنائهم، وتم افتتاح الصفوف الأولى ثم تدرجت لتصبح مدرسة ابتدائية عليا في المنطقة.
أما تمرات فكانت نقطة التقاء، إذ يمر بها القادمون من المرتفعات إلى السودان وبالعكس. لم تكن هناك مراقبة مشددة على الحدود في تلك الفترة، لذلك كان التهريب منتشرًا بكثرة سواء للبضائع أو الناس.
استقر والدي في تمرات وعمل ممرضًا، كما مارس مهام البيطرة في علاج الحيوانات، خصوصًا في الشتاء مع انتشار أمراض الحيوانات وكذلك انتشارالملاريا ولدغات الأفاعي. وبفضل تدريبه على أيدي الإيطاليين كان يعالج البشر والحيوانات معًا. أصبح معروفًا جدًا في القرى المجاورة كطبيب وحيد في المنطقة، وكان يجول يذهب من قرية إلى أخرى على ظهر الدواب لمعالجة الناس والحيوانات هناك.
أما أصل عائلتنا “خليفة” فيعود إلى جدّنا محمد خليفة إسماعيل، الذي فرّ من الحرب الإثيوبية–الإيطالية عام 1889 إلى السودان، وتحديدًا إلى منطقة التاكا (كسلا). في ذلك الوقت كان الإثيوبيون يقطعون اليد اليمنى والرجل اليسرى من الأسرى الإطاليين، فهرب إلى السودان ثم عاد إلى بلده وانضم إلى الختمية، وأصبح يُعرف بمحمد خليفة. ومن هنا جاء اسم العائلة (خليفة).
كان جدنا متدين، والتحق بالختمية وأصبح له مكانة دينية.
أما أنا فقد تعلمت المرحلة الابتدائية في تسني، ثم هاجرت إلى مصر في سن السابعةعشر. كان عبور الحدود سهلاً جدًا، إذ لم تكن هناك قيود كما هي الآن، وكان يُنظر إلينا كجزء من السودانين. ثم التحقت بالمدرسة الثانوية في مصر في مدرسة الخديوي إسماعيل بالقاهرة.
بعدها التحقت بجامعة القاهرة ودرست في قسم العلوم السياسية والاقتصاد، وتخرجت بدرجة البكالوريوس عام 1971، وهي السنة التي توفي فيها الرئيس جمال عبد الناصر.
بعد التخرج من جامعة القاهرة، مثل الكثيرين من الإرتريين، هاجرت إلى أوروبا. ثم التحقت بجامعة مونستر في ولاية وستفاليا بالمانيا، ودرست علم الاجتماع. وحصلت الماجستير عام 1980، ثم الدكتوراه عام 1984 في نفس الجامعة.
رحلة العمل
لكن العمل لم يكن سهلاً في ألمانيا، ومن الصعب أن يجد الخريج الجديد عملاً مناسبًا بسهولة. لذلك قررت الهجرة إلى ليبيا عام 1985، وهناك التحقت بجامعة سبها كأستاذ لعلم الاجتماع في كلية التربية، وعملت بها سبع سنوات حتى عام 1992.
العمل في إرتريا
حينما إستقلت ارتريا قدم كثير من الأساتذة الإرتريين العاملين في الخارج استقالاتهم استعدادًا للعودة إلى الوطن. و قدمت أنا أيضا استقالتي في ليبيا وسافرت إلى أسمرا في ديسمبر 1992.
في عام 1993 قُبلت للعمل أستاذًا في جامعة أسمرا.وزميل آخر قادمًا من جامعة أديس أبابا. أسسنا معًا قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. بعد عام انضم إلينا الدكتور ألكسندر قادما من أمريكا وساهم معنا في تأسيس القسم بشكل كامل.
كانت الجامعة في تلك الفترة تمر بحالة نفسية صعبة، وكان هناك توتر بين الأساتذة. بعض المدرسين طالبوا بأن تكون الجامعة مؤسسة مستقلة غير تابعة للحزب الحاكم. أما الإدارة فكانت على العكس، خاضعة لسيطرة الحزب الحاكم. أدى ذلك إلى طرد عدد من الأساتذة بتهم مختلفة – لا أستطيع الجزم بصحتها – لكن النتيجة كانت نقصًا حادًا في الكوادر المؤهلة.
أما أنا، فكنت حساسًا قليلًا تجاه السياسة. لم أنتمِ للحزب، لكن وضعي أثار كثيرًا من علامات الاستفهام. ومع ذلك حاولنا قدر المستطاع أن ننسجم مع الأوضاع، لأن الأولوية كانت وما تزال للعلم والتعليم.
هل النظام الارتري طائفي يعمل لصالح المسيحيين؟
هذا غير صحيح, النظام الارتري ليس طائفيا. منذ البداية كان تركيز النظام على أشخاص ينتمون للجبهة الشعبية، والذين ورثوا مراكز النفوذ داخل الحزب والجيش والأمن، بصرف النظر عن ديانتهم. لذلك نجد أن كثيرًا من المسلمين والمسيحيين على السواء مُقصون ومهمَّشون إذا لم يكونوا منتمين للتنظيم.
على سبيل المثال: في منطقة حماسِن، خرجت أعداد كبيرة من الجنرالات والضباط الذين يسيطرون على الجيش والأمن. هذا ليس تحيزًا دينيًا بل مناطقي وحزبي. فالسلطة الفعلية متركزة بيد شبكة حزبية مغلقة، لا علاقة لها بالديانة، وإنما بالانتماء للجبهة الشعبية والولاء لها.صحيح غالبيتم من المسيحيين لكن هذا سبب انتمائهم للحزب منذ وقت مبكر وليس بسبب الدين.
في النهاية، النظام الإرتري نظام شمولي استبدادي، لا يؤمن بالمحاسبة ولا بتداول السلطة السلمي، بل يحتكر كل شيء تحت سيطرته.”وفي النهاية، لا بد من التأكيد أن النظام الإرتري الحالي هو نظام دكتاتوري شمولي، لا يعني بالدين كمرجعية أو كمعيار للتمكين السياسي، بل هو نظام لا يؤمن إلا بالسلطة والسيطرة، ويتعامل مع الجميع – مسلماً كان أو مسيحياً – وفق منطق الولاء، لا العقيدة.
ماهي الصيغة المناسبة لحكم إرتريا في المستقبل؟
هذا سؤال كبير ولكل شخص وجهة نظره الخاصة. بالنسبة لي، أرى أنه لا مفر من المصالحة الوطنية (National Reconciliation).
علينا أن نتحلى بالشجاعة للاعتراف بالأخطاء التي وقعت في الماضي – سواء تلك التي ارتكبتها الجبهة الشعبية أو جبهة التحرير أو غيرهما – خلال محطات التاريخ المختلفة.
لا يمكن لأي مجتمع أن يتعافى دون نقد ذاتي صادق. كما يفعل الطبيب حين يبدأ بتشخيص المرض قبل علاجه، علينا نحن أيضًا أن نشخّص عللنا الاجتماعية، وأن نطرح على أنفسنا أسئلة جوهرية:
-
ما هي العقدة الاجتماعية التي تمنع بناء الثقة المتبادلة؟
-
لماذا لا يثق بعض المسيحيين في إخوانهم المسلمين، والعكس كذلك؟
-
ما هي جذور غياب الثقة، وما هي دوافعه التاريخية والاجتماعية؟
ينغي أن ننظر بصدق إلى أنفسنا، نفحص أسباب الانقسام، ونبحث عن أسس عادلة تقوم عليها صيغة حكم مستقبلية لإرتريا، صيغة ديمقراطية حقيقية تقرّ بالتعدد الاجتماعي والثقافي وتحترمه.
هذه الصيغة يجب أن تقوم على مساواة حقيقية في جميع مجالات الحياة:
-
في التعليم.
-
في الرعاية الصحية.
-
في توزيع الوظائف.
-
في العمل والإنتاج.
يجب ألا يكون الانتماء القبلي أو الطائفي معيارًا، بل الكفاءة العلمية والمهنية والخبرة. لكل شخص الحق أن يُقيَّم ويُوظف حسب كفاءته، سواء كان مزارعًا أو طبيبًا أو مهندسًا أو مدرسًا.
إذا وُجد دستور وطني ينص على هذه المبادئ – المساواة والعدالة والمشاركة – فسيكون ذلك خطوة حقيقية نحو بناء دولة عادلة ومتماسكة.
نحن لسنا دولة كبيرة، فعدد سكاننا لا يتجاوز 6 إلى 7 ملايين نسمة، وربما يصل إلى 8 ملايين مع الجاليات الإرترية في المهجر. لكن أكثر من 60% من الإريتريين يعيشون خارج الوطن، في دول مثل السودان, واثيوبيا، السعودية، اليمن، مصر، أوروبا، وأمريكا واستراليا.
المشكلة ليست في الدين ولا في الطائفة، بل في نمط الحكم الفردي الإقصائي الذي لا يعترف بالاختلاف، ولا يسمح بالمحاسبة أو بتداول السلطة سلميًا.
إن تجارب الدول الأخرى – مثل الهند أو مصر – التي تضم شعوباً متعددة الأديان والثقافات، تؤكد أن المشكلة في إرتريا ليست في التنوع الديني أو الطائفي، بل في طبيعة الحكم الفردي الإقصائي الذي لا يسمح بالمشاركة، ولا يعترف بالاختلاف، ولا يؤمن بالمحاسبة أو بالتداول السلمي للسلطة.
الصيغة المطلوبة إذن هي صيغة ديمقراطية تشاركية، مبنية على العدالة والمساواة والاعتراف بالتعدد، وهي الصيغة التي تُمكّن جميع الإريتريين من القبول بها والانطلاق نحو مستقبل أفضل.
هل تناولت في كتابك دور قبائل الساهو في الثورة؟
نعم، تناولت ذلك لأن الساهو جزء لا يتجزأ من القوميات الإرترية. كتابتي لم تكن انتقائية، بل عالجت القضايا من منظور قومي شامل. قبائل الساهو كان لها دور بارز في الثورة الإرترية، وأسهمت في مختلف المراحل، سواء بالنضال العسكري أو الاجتماعي أو الثقافي. هذا أمر طبيعي لأنهم مكوّن أصيل وأساسي في النسيج القومي الإرتري.
قرأنا في سيرتك أنك هاجرت عن إرتريا عام 2011. كيف تمكنت من الهجرة رغم الحظر السلطاني عليك، وما أسباب هجرتك عن الوطن؟
حضور مؤتمر هامبورغ
سنحت لي فرصة حضور مؤتمر في هامبورغ بألمانيا وقد حضره أيضًا شخصان آخران. سافر كل واحد منا على طريقته الخاصة. بعد انتهاء المؤتمر بقيتُ شخصيًا في ألمانيا لثلاثة أسابيع، حيث زرت بعض الزملاء القدامى والأصدقاء، خاصة أنني كنت قد درست هناك من قبل.
في عام 2003، عدت من مؤتمر حول الدراسات الإثيوبية الإرترية في جامعة هامبورغ، برفقة زميلي ألسكندر وزميل ثالث. وفور وصولي إلى مطار أسمرا احتُجزت لساعات طويلة. تم استجوابي واتهامي بالتأمر ضد الدولة بسبب ما ورد في المؤتمر من انتقادات للجبهة الشعبية وظروف القوميات.
طرحوا عليّ أسئلة مثل: “أين كنت تعمل؟” و”ماذا كنت تفعل هناك؟” وفي النهاية أعادوا لي جوازي، ولم يسحبوه حينها.
إلا أن الأمر لم يدم طويلا فبعد عودتي من المؤتمر بحوالي شهر، أي في سبتمبر 2003، تم سحب جوازاي رسميًا ومنعت من السفر والعمل، وتم عزلي من الجامعة. هذه الإجراءات كانت صارمة، لم يتركو لي أي مجال للتحرك.
عاد زميلي ألكسندر إلى قريته في بارنتوا، وأُصيب هناك بالملاريا وتوفي لاحقًا في المستشفى بأسمرا. أما الزميل الثالث فكان متهمًا بالتحريض في أوساط طلاب البنطي، وهي جماعة دينية ترفض الخدمة العسكرية لأسباب عقائدية.
بعد طردي من الجامعة، لم يُسمح لي بالعمل في أي مؤسسة، خصوصًا المنظمات غير الحكومية (INGOs). وبمحاولة خاصة تمكنت من العمل في مؤسسة كندية تقدم الدعم والتأهيل للاجئين السودانيين على الحدود بين السودان وإرتريا بالقرب من منطقة بركة و لكن بعد مدة قليلة أرسلت الحكومة تحذيرًا رسميًا إلى تلك المؤسسة، ومنعت المنظمة من تشغيل أي شخص دون إذن رسمي من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. ومن المؤسف علمت بذلك من شخص يدعى محمد عبدل كان يعمل في المنظمة توفي لاحقا رحمه الله.
ثم بعد ذلك جائي المسؤول الكندي في المؤسسة وقال لي : نحن لا نريد الدخول في صراع مع الدولة , سنمنحك مصروفا لثلاث اسابيع ثم سنضطر الى إنهاء التعاون معك, وانتهى الأمر بهذه الطريقة.
بقيتُ بلا عمل، لكنني استطعت أن أحصل على دخل بسيط عبر إرسال أبحاثي إلى بعض الجامعات الأجنبية، التي كنت على علاقة طيبة بها. كنت أجري بحوثي سرًا وأرسلها للخارج، وهذا ما ساعدني على الإنفاق على أسرتي الكبيرة المكونة من اثني عشر فردًا بمن فيهم أختي وابنتها وحفيدتها كانوا يعيشون جميعًا في أسمرا آنذاك، أما إخوتي فقد بقوا جميعا في السودان باستثناء أخت واحدة كانت قد عادت إلى مدينة تسني واستقرت هناك.أما والدي استقر معنا في اسمرا ثم عاد الى السودان وتوفي هناك رحمه الله، وكذلك والدتي كانت تقيم معنا في اسمرا ثم عادت الى السودان وتوفت أيضًا في السودان رحمها الله.
في نهاية المطاف أنا غادرت البلاد، بينما بقي أولادي في أسمرا يؤدون الخدمة الوطنية مجهولة الأجل.
طوال الفترة من 2003 إلى ديسمبر 2011، كنت رهن الإقامة الجبرية. لم يكن يُسمح لي بالسفر أو حتى التنقل داخل البلاد دون إذن رسمي.وبعد تدهورت صحتي، وأُصبت بحصى في الكلى وقرحة في المعدة. لجأت إلى لجنة طبية وقدّمت طلبًا للعلاج بالخارج. وبعد أشهر من الفحوصات، تم رفع تقرير طبي إلى وزارة الصحة يؤكد خطورة حالتي
قابلت وزير الصحة حينها، الدكتور صالح مكي، الذي أكد ضرورة التحقق من وضعي الصحي. وبعد أسبوعين وافقت اللجنة الطبية. لكن رجال الأمن قالوا لي بالحرف الواحد: “حتى لو عندك تقرير طبي، لن تخرج. أنت تحت المراقبة منذ 2003”.
كنت على تواصل مع زملاء في جامعات أوروبية, جامعة هامبورغ رشحتني لمنحة بحثية ضمن مشروع أكاديمي مدته أربع سنوات. كما حصلت على دعم من أصدقائي في الخارج الذين أرسلوا لي الأدوية والفيتامينات. ولولا هذا الدعم، ما كنت لأتحمّل سنوات المرض مع الإقامة الجبرية..
كذلك، تلقيت عرضًا من منظمة (Scholars at Risk.) في الولايات المتحدة وهي منظمة تعنى بحماية الأكاديميين المعرضين للخطر في العالم .
في عام 2008، كنت أكتب مقالات نقدية عن الأوضاع في ارتريا، لكن زملائي في جامعة هامبورغ نصحوني بعدم نشرها باسمي خوفًا من التبعات.
في العام2009، حصلت على منحة “فولبرايت” من جامعة واشنطن في سيتل كأستاذ زائر لمدة عامين. لكن رغم اكتمال الملف، رُفض منحي الجواز, والأكثر مرارة أن شخصًا آخر أُرسل بديلًا عني للمنحة نفسها، في ترتيب تم بين قيادة الحزب ورئاسة الجامعة.
في نهاية 2010، قدمت طلبًا رسميًا للخروج بغرض العلاج، بدعم من بعض طلابي العاملين في الأجهزة الأمنية. وافقت السلطات بشرط العودة خلال ثلاثة أشهر. تم تسليمي جواز السفر بعد تنسيق أمني دقيق، وأُرفقت التقارير الطبية المطلوبة.
خلال تلك الفترة، تواصلت مع زملائي في الجامعات الأوروبية. كانت جامعة أوسلو أول من قدّم لي دعوة رسمية. رغم أنني كنت أرغب في الذهاب إلى ألمانيا، فإن البروتوكول كان واضحًا: أول دعوة تصل هي التي يُعتمد عليها.
سافرت بتأشيرة نرويجية قصيرة الأجل، وتم تقديم ملف سفري كمريض، دون الإشارة إلى الدعوة الأكاديمية.فقد أخفيت رسالة الدعوة للعمل في جامعامعة النرويج وعند وصولي في ديسمبر 2011، بدأت علاجي في المستشفى الجامعي ثم بدأت العمل في الجامعة نفسها مباشرة كباحث زائر.
في البداية، خصصوا لي سكنًا ضمن مساكن الأساتذة، ومكتبًا مستقلًا في قسم العلوم الاجتماعية. أبلغتهم برغبتي في استثمار هذه الفترة للبحث وكتابة الدراسات استنادًا إلى البيانات التي جمعتها. وافقوا، وقالوا لي: “تابع علاجك واكتب كما تشاء، المهم أن تكون مرتاحًا”.
تم تمديد استضافتي من عام واحد إلى ثلاث أعوام، عملت في السنة الأخيرة في كلية جامعة أوسلو وأكرهاوس. وكل هذا موثق ضمن سيرتي الذاتية.
هكذا خرجت من البلاد. لم يكن هناك صفقة ولا ترتيبات سياسية، بل جهد إنساني وأكاديمي. لكل من يشكك في خروجي وعلاقتي بالنظام، هذه هي قصتي كاملة كما عشتها دون إضافة أو حذف.
التعلق بحبال الهجرة قد يفيد العقول المهاجرة، لكن ألا ترى أن الهجرة هرب من المواجهة؟
هذا سؤال مشروع، لكن في حالة مثل حالتي، لم تكن الهجرة ترفًا أو خيارًا سياسيًا. كنت ممنوعًا من السفر والعمل، ومحاصرًا صحيًا وأكاديميًا. الهروب لم يكن من مواجهة، بل من الانهيار. وقد استثمرت وجودي في الخارج لأكتب وأنشر وأوثّق، وهو نوع من المواجهة بلغة العقل والمعرفة.
كيف تقيّم الغربة بين كسبك منها وخسارتك؟
الغربة قاسية، لكنها فتحت لي نوافذ معرفية كبيرة. تعاونت مع جامعات دولية، ونشرت دراسات حول الشباب والخدمة الوطنية، وكتبت عن التهميش الأكاديمي لقوميتي الساهو. الخسارة كانت شخصية، أما الكسب فكان علميًا ومعنويًا
هل إرتريا مؤهلة لتكون دولة قادرة على إدارة نفسها رغم تباين مكوناتها؟
نعم، إرتريا مؤهلة بكل المقاييس. التباين الثقافي والديني واللغوي لا ينفي أهليتها، بل يعززها إن أُحسن إدارته. المشكلة ليست في المكونات، بل في غياب دولة عادلة تمثّل الجميع.
“دعوني أقولها بوضوح: إرتريا دولة مؤهلة بكل المقاييس التاريخية والجغرافية والسياسية. الجدل القائم حول هويتها أو شرعيتها هو في جوهره خلاف سياسي لا يُقلل أبدًا من حقيقة كونها كيانًا مستقلًا يستحق أن يحترم الحدود الإرترية الحالية، رغم أنها نتاج حقبة استعمارية إيطالية، لا تختلف عن بقية حدود الدول الإفريقية التي تأسست على نفس الأساس. هذه الحدود لم تكن عبثية، بل ثُبّتت كجزء من الإرث الجغرافي الذي خلفه الاستعمار، تمامًا كما هو الحال في السودان، والنيجر، ومالي، وغيرها من دول القارة. وقد أكد مؤتمر الوحدة الإفريقية عام 1963 هذا المبدأ بوضوح، حين أقرّ تثبيت الحدود الموروثة عن الاستعمار منعًا للصراعات والانقسامات. ووافقت على ذلك جميع دول القارة.
إرتريا، كما نعرفها، تضم تسع قوميات رئيسية، من بينها قوميات وفدت قبل أكثر من قرن من شبه الجزيرة العربية، وتعيش اليوم جنبًا إلى جنب مع المكونات الأصلية من سكان المرتفعات والمنخفضات. هذا التداخل لا يلغي الانتماء، بل يعكس تنوعًا ثقافيًا ثريًا لا ينفي إطلاقًا وجود هوية وطنية جامعة
عندما نتحدث عن جذور الدولة الإرترية، لا بد من التذكير بالوجود الإسلامي التاريخي في المنطقة، ممثلًا في سلطنة العفر والبجه، اللتين سبقتا حتى نشأة الدولة الحديثة. هذا يمنح إرتريا عمقًا حضاريًا وهوية متجذّرة في التاريخ ولا يمكن أن نغفل في هذا السياق الحديث عن المحاولات البريطانية لتقسيم إرتريا بين المرتفعات والمنخفضات بعد الحرب العالمية الثانية. حينها، ورغم التباينات السياسية، فإن جميع القوى الوطنية الإرترية – بما فيها تلك التي كانت تؤيد الوحدة مع إثيوبيا – رفضت مشروع التقسيم البريطاني. وهذا وحده يكفي ليبرهن على تمسك الشعب الإرتري بوحدة أراضيه وهويته المستقلة.
حتى في الشتات، ترى أبناء الشعب الإرتري في السودان، وفي إثيوبيا، وفي دول المهجر الأخرى، يتمسكون بهويتهم الإرترية رغم كل المعاناة والظروف القاسية، ورغم حملهم لجنسيات متعددة. هذا وحده يدل على مدى عمق الهوية الوطنية في وجدان الإرتريين.
لكن دعونا نكون صادقين مع أنفسنا. التحدي اليوم لا يكمن في شرعية الدولة، بل في غياب الدولة العادلة. إرتريا تحتاج إلى نظام حكم يضمن التمثيل العادل لكل مكوناتها، دون إقصاء أو تمييز أو تهميش. فالعدالة السياسية والاجتماعية هي مفتاح الاستقرار وبناء الوطن.
إذا حصلت كل مجموعة قومية أو ثقافية أو دينية على حقوقها دون تمييز في الأرض أو السلطة أو التعليم أو التنمية، فلن تكون هناك أي مشكلة. إرتريا مؤهلة لأن تكون دولة مستقلة وذات سيادة، والخلافات الموروثة، أو حتى المستجدة، لا تنفي هذه الحقيقة أبدًا.
شغلت مناصب متقدمة في التعليم، فما مآخذك على السياسة التعليمية؟
أكبر مأخذ هو توظيف التعليم أيديولوجيًا. تم تهميش لغات وثقافات قوميات كثيرة، والترويج لسياسات لغوية إقصائية تحت شعار لغة الأم، مما تسبب في عزلة تعليمية وثقافية لبعض الفئات لأن العربية كانت وما تزال لغة وعي وانتماء. النظام خاف من رمزيتها كعنصر جامع للمسلمين، واستخدم سياسة “لغة الأم” لإضعافها. لكن الواقع أثبت أنها متجذرة شعبيًا، ويتحدث بها معظم الإرتريين.
مؤتمر الحزب الحاكم للغات عام 1994هل هو مشروع لغوي أم صراع سياسي؟
شهد مؤتمر اللغات الذي عقدته الحكومة الإرترية عام 1994 انقسامًا حادًا بين تيارين: الأول يدعو إلى اعتماد اللغة العربية، والثاني يروج لمشروع “لغة الأم”. تم الضغط على بعض الوفود لدعم الخيار الثاني، مع وعود مالية وتعبئة إعلامية. و لكن رغم ذلك، ظهرت أصوات قوية تؤكد ارتباط الناس بالعربية، بوصفها لغة التاريخ والدين والجوار. شاركتُ بورقة علمية عرضت فيها التقارب اللساني بين لغتي الساهو والعفر، لدعم التكامل لا التقسيم.
هل من شواهد ميدانية تؤكد حضور اللغة العربية شعبيًا؟
نعم، مثل قرية “قوحيته” الجبلية التي رفضت التدريس بلغة الساهو في البداية وطالبت بالتعليم بالعربية وحينما رفضت الحكومة اضطروا الى قبول التدريس بلغة الساهو لكي تبني لهم المدرسة لتعليم أبنائهم. كما أن مسؤولًا حكوميًا في مدينة عصب اجتمع بوجهاء واعيان المنطقة من العفر واقنعوه بان اللغة العربية هي جسر تواصل مع دول المنطقة مثل اليمن , السعودية وايضا هي أيضا لغة تواصل مع ابناء الوطن والشعب الصومالي الشقيق أيضا.فاقتنع المسؤول الحكومي بحجج أعيان المنطقة. وبعدها رجع الى أسمرا لمواجهة وزارة التعليم لعرض غبة السكان في التعليم باللغة العربية, فأقيل من منصبه مباشرة، مما يؤكد أن القضية سياسية لا تعليمية.
هل اللغة العربية كانت خصمًا في تاريخها لطرف إرتريا؟
أبدًا. بالعكس، كانت لغة توحيد وعلم ودين، وتاريخيًا استخدمها حتى المسيحيون في إثيوبيا ومصر والسودان . اللغة العربية ليست تهديدًا، بل جسر حضاري
هل يتوافق واقع النظام مع شعاراته عن وحدة اللغات الوطنية؟
لا، للأسف. النظام يقول يشئا ويفعل نقيضه. تبنّى رسميًا التعدد اللغوي لكنه فعليًا استخدمه كأداة إقصاء للعربية، ضمن مشروع تفكيك وطني مُمَنهج.
كيف تقيّم مكانة اللغة العربية عالميًا ومحليًا؟
اللغة العربية ليست مجرد أداة تواصل، بل مكوّن حضاري عالمي. يتحدث بها أكثر من 400 مليون إنسان، وهي من اللغات الرسمية المعتمدة في الأمم المتحدة إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. لها وثائق رسمية مثلها مثل الصينية والروسية، ووجودها يعكس ثقلها التاريخي والثقافي، رغم أن بعض الحكومات العربية ومنها إرتريا قد تتنكر لها.
هل يمكن القول إن صراع اللغة في إرتريا هو صراع هوية؟
نعم، الصراع حول اللغة يُخفي في جوهره صراعا سياسيًا ودينيًا أعمق. محاولات تقليص دور العربية ليست كلغة فحسب، بل تحمل أبعادًا ثقافية ودينية. وفي الشتات، أبناء الجاليات – بمن فيهم المسيحيون – يتحدثون العربية بطلاقة، ما يدل على أنها جزء من التكوين الثقافي. اللغة ليست تهديدًا، بل جسر حضاري، ويجب أن تكون أداة للعدالة والانتماء لا وسيلة للإقصاء.
ما طبيعة قضية اللغة العربية في إرتريا؟ هل هي مسألة تعليمية فقط؟
قضية اللغة العربية في إرتريا ليست مجرد مسألة تعليم أو تواصل، بل تتصل مباشرة بصراع الهوية والانتماء الثقافي والديني في ارتريا.
كيف تعاملت الجبهة الشعبية مع اللغة العربية خلال فترة الكفاح المسلح وبعد الاستقلال؟
منذ فترة الكفاح المسلح وحتى بعد الاستقلال عام 1993، سعت الجبهة الشعبية لتكريس ما أسمته “تعدد اللغات”، في إطار سياسة “فرّق تسد”، التي استهدفت – بحسب وصفي – تفكيك وحدة المكون الإسلامي الذي كان متمسكًا باللغة العربية كعنصر جامع.
وماذا عن مشروع “لغة الأم” الذي تم الترويج له في إرتريا؟
مشروع “لغة الأم” الذي رُوّج له في الميدان ومن بعد الاستقلال، لم يكن مشروعًا تربويًا صرفًا، بل كان ذا خلفية سياسية، جرى تنفيذه بدعم من منظمات دولية، وعلى رأسها اليونسكو، ضمن برامج تُنفذ في عدة دول إفريقية وآسيوية لتطوير اللغات المحلية، لكنه اتخذ في إرتريا طابعًا إقصائيًا تجاه اللغة العربية.
هل كانت اللغة العربية معترفًا بها رسميًا في الدستور الإرتري السابق؟
نعم، الدستور الإرتري لعام 1952 أقرّ اللغة العربية إلى جانب التقرينا كلغتين رسميتين، واستُخدمت العربية في التعليم والإدارة ووسائل الإعلام، وكانت هناك صحف تصدر بالعربية، بل وكان بعض الوزراء والمسؤولين يستخدمونها رسميًا.
كيف كان واقع اللغة العربية في الحياة التعليمية خلال فترة الخمسينات؟
في الخمسينات، كانت هناك مدارس عربية منتشرة في المرتفعات، ومعلمون من كرن، ومن بركة وسمهر وغيرهم، كانوا يدرّسون اللغة العربية في المرتفعات.
كيف هو الإقبال الشعبي على اللغة العربية في إرتريا؟
الإقبال الشعبي على اللغة العربية ما زال قويًا، حيث أظهرت دراسات أجريت في التسعينيات أن أكثر من 90% من أولياء الأمور ما عدا [الكوناما] في مختلف المكونات الإرترية كالساهو، والعفر، والنارا، والتجرايت،وغيرهم عبّروا عن رغبتهم في تعليم أبنائهم باللغة العربية.
هل يفضّل الطلاب اللغة العربية رغم مشاريع “لغة الأم”؟
نعم، حتى الطلاب أنفسهم، رغم إغراءات مشاريع لغة الأم، مثل الكتب والهدايا، أبدوا تفضيلًا واضحًا لتعلّم اللغة العربية.
كتبتَ عن الساهو. حدثنا عن الكتاب وأسبابه؟
مالذي دفعك للبحث في موضوع القانون العرفي؟ ولماذا هذا التخصص تحديدا ؟
قصة اهتمامي بالقانون العرفي بدأت عام 1994، حين أقيمت ورشة عمل في جامعة أسمرا حول هذا الموضوع. لم أكن مدعوًا إليها رسميًا، لكنني صادف أن قابلني البروفسور يوسف نبراي، الذي شجعني على الحضور. قال لي كيف لم تتم دعوتك وانت أستاذ مختص؟ وبالفعل حضرت وهناك بدأت أرى لأول مرة نماذج كثيرة من القوانين المختلفة لقوميات مختلفة – كالعفر، البلين، المنسع، وخماسِن – قوانينهم العرفية، بينما لم يكن هناك أي تمثيل أو عرض خاص للقوانين العرفية للساهو. هذا الأمر أثار استغرابي، خصوصًا حين استفزني أحد الزملاء بقوله: “أنتم الساهو، أين قانونكم؟ هل أنتم بلا قانون؟”.أجبته أنني لا أعلم , أنا جديد على هذا الموضوع , لكنني سأبحث.
شعرت أن الأمر يمثل تحديًا، ومنذ ذلك الحين قررت أن أبحث وأوثّق القانون العرفي للساهو.
بدأت رحلتي في البحث والتقصي عن القانون العرفي في منطقتنا. حصلت على نسخة مكتوبة من القانون العرفي الذي كنا نحتكم إليه، ثم استعنت بالأستاذ محمد عثمان من قسم المناهج، الذي ساعدني في طباعة النص على جهاز الكمبيوتر. قمت لاحقًا بدمج النسخة العربية والنسخة الإنجليزية في كتاب واحد، بحيث تكون العربية في الجهة اليمنى والإنجليزية في الجهة اليسرى.
كما أضفت إلى الكتاب تفاصيل توضيحية عن مكونات مجتمع الساهو وقبائلهم، مع محتوى إضافي مهم. وفي عام 2009 نُشر الكتاب على الإنترنت ليكون متاحًا للباحثين والمهتمين.
هذا العمل كان بداية طيبة دفعتني للغوص بشكل أعمق في المجال، لأنه يعكس خصوصياتنا الثقافية والاجتماعية والتشريعية.
هل هناك مسيحيون في قبائل الساهو؟
طرحت عليّ سؤالًا مهمًا: نعم. في كل قبائل الساهو يوجد مسيحيون، سواء أفراد أو عائلات. على سبيل المثال، في قبيلة دبرميلا يوجد ناظران، أحدهما مسلم والآخر مسيحي، ويعيشون جنبًا إلى جنب في تعاون تمام ومعظمهم يعمل في الزراعة.
كذلك في قبائل الإروب، وهم امتداد للساهو في إرتريا وإقليم تيقراي الإثيوبي،أغلبهم مسيحيون. لديهم إذاعة وتلفزيون يبثّان باللغة الساهوية،مرتين في الاسبوع ويعكسان ثقافتهم وحضارتهم.
وهناك أيضًا قبائل الطروعة، الأساورِتا، والمينيفري، التي تضم مسيحيين بأعداد كبيرة.
قبيلة الطروعة مثلًا كانت دائمًا محل استهداف منذ عهد الاستعمار الإيطالي. فقد ارتد بعض أبنائها إلى المسيحية، وأصبحوا في صف الأعداء ضد إخوتهم المسلمين. استغلوا هذا الوضع واستحوذوا على الأراضي الخصبة للمسلمين خصوصا في اقليم سقنيتي والكاثوليك هناك أبناء عمومتهم لكن العلاقة لم تكن دائما طيبة.
كان المسلمون من الطروعة رعاةً يتنقلون مع مواشيهم نحو البحر. ومع أن المسيحيين من الطروعة هم”بني عمومتهم وإخوتهم”، إلا أن بعض الكهنة الكاثوليك استخدمو الدين كسلاح لمحاربة المسلمين.
من الأمثلة على ذلك: الجنرال زري مريام -من المنسع من طيرسراويت كان شديد العداء للمسلمين
وكذل الأنظمة السياسية استغلت الدين في تأجيج النزاعات وتقسيم القوميات. الإيطاليون من قبل، ثم الإمبراطور هيلا سلاسي، استخدموا بعض المسيحيين من الساهو لتغذية الصراع بين ابناء العمومة من الساهو.
اليوم أيضًا هناك مسيحيون من الساهو يعيشون في إرتريا وإثيوبيا، خاصة في إقليم حماسِن وسرايي واكلي جوزاي وبعضهم شديد العداء للمسلمين، لكن بعضهم الآخر متعايشون بشكل طبيعي مع المسلمين.
إذن، فالدين لم يكن أصل المشكلة، بل التدخلات السياسية من الفئة الحاكمة بدأ من الامبراطور هيلي سلاسي هي التي عمّقت الفجوة بين المسلمين والمسيحيين.
هذا التنوع الديني داخل قومية الساهو ليس أمرًا غريبًا، بل هو موجود أيضًا في قوميات أخرى مثل قومية التجري، العفر. المشكلة لا تنشأ من وجود مسيحيين أو مسلمين، بل عندما يتحول المتشدد أو “المرتد” إلى أداة ضد إخوانه، كما شهدنا مرارًا في التاريخ.
كتبت عن الساهو لأنهم كانوا مهمشين أكاديميًا. وجدت أنه لا وجود لأي وثائق عن قانونهم العرفي مقارنة بغيرهم، وهذا أغضبني. بدأت بحثًا، ووجدت نسخة نادرة من القانون، قمت بتوثيقها وترجمتها، وطُبعت عام 2009. الحافز وراء الكتاب كان شعوري بالمسؤولية العلمية والإنسانية تجاه مكون وطني ظل مهمّشًا في الأدبيات الأكاديمية الإرترية.
لماذا اخترت الساهو دون غيرهم، رغم وجود دراسات كثيرة عن قوميات أخرى؟
لأن الساهو غُيّبوا عن الساحة الأكاديمية بصورة شبه تامة، في حين نجد دراسات ومؤلفات عن البني عامر، الحباب، المنسع، البلين، البجه , والعفر. عندما نكتب عن الساهو، يستغرب البعض وكأن الأمر خروج عن المألوف، بينما كل القوميات لديها وثائق منشورة، فلماذا يُستكثر علينا التوثيق؟
هل تناولت في كتابك تداخل الساهو مع الأساورتا؟
نعم، الكتاب تحدث عن القبائل السبع الرئيسية للساهو وفي مقدمتهم الأساورتا والمنيفري بحكم أنهم جزء أسايسي ومهم في القومية, شأنهم في ذلك شأن البجا والعفر. هذه التحالفات جزء من النسيج الوطني، الذي لا يمكن تجاهله أو إنكاره.
كيف حصلت على نسخة القانون العرفي للساهو؟
بدأت رحلة بحث شخصية، وتواصلت مع شخصيات مهتمة بالتراث، من بينهم الأستاذ سليمان، الذي تبيّن لاحقًا أنه يحتفظ بنسخة نادرة من القانون. حصلت عليها، ونسختها، ثم وزعتها على أقسام المناهج في وزارة التعليم ضمن مشروع دعم تدريس اللغات القومية.
هل تمت ترجمة القانون العرفي للساهوا لأغراض أكاديمية؟
نعم، تمت ترجمة النص إلى اللغة الإنجليزية بالتعاون مع الأستاذ عثمان محمد عثمان، أحد خريجي الجامعات السورية، والذي أكمل دراسته العليا في بريطانيا. وطُبع الكتاب عام 2009، وأُرسل إلى جامعات أوروبية مثل جامعة هامبورغ، حيث يستخدم الآن كمصدر مرجعي في دراسات القانون العرفي الإفريقي.
هناك من يرى أن الكتابة عن الساهو قد تُفهم كدعوة للتفرقة. ما رأيك؟
هذا غير صحيح. الكتابة عن الساهو ليست نزعة انعزالية أو تمييزية، بل محاولة لتصحيح غياب التمثيل الأكاديمي لقومية إرترية أصيلة. لماذا يشعر البعض بالضيق حين يُكتب عن الساهو؟ أليس هذا الكتاب مثل الكتب المكتوبة عن التجري, والكوناما، والعفر والبلين؟ لكل منهم تاريخه، فلماذا يعامل الساهو وكأنهم غرباء؟
وكيف ترد على من يستخدم الهويات القبلية للتقسيم؟
مكونات الساهو، من أساورتا،ومنيفري وحزو، وطروعة، ودبري ميلا، وإدّه، وغيرهم، يشكلون نسيجًا متكاملًا. استخدام هذه الهويات للفرقة أو الإقصاء أمر مرفوض ومكشوف سياسيًا، وقد استخدمها النظام والجبهة الشعبية سابقًا ضمن سياسة “فرّق تسد” لإضعاف الروابط الوطنية الجامعة كاللغة والدين.
ما الكلمة التي تختم بها حديثك حول هذا الموضوع؟
التعرف إلى الذات ومعرفة التاريخ لا يُعدّ طائفية أو تعصبًا، بل هو واجب معرفي وأخلاقي. أنا لم أخترع تاريخ الساهو، بل وثّقته بعد بحث وجهد، ومن حقي ومن حق كل باحث أن يكتب عن قومه وهويته دون أن يُساء فهمه. الهوية ليست سلاحًا ضد أحد، بل أداة لفهم الذات والانفتاح على الآخر. من حق كل قومية أن تكتب عن نفسها، ومن حق الجميع أن يقرأ عنها دون خوف أو تحامل.
بل أود أن أوضح أن ما كتبته عن قبائل الساهو ليس من عندي وحدي، وإنما هناك كتب ودراسات عديدة سبقتني، تناولت هذه القبائل ووثّقت لغتها وشعرها وأدبها وثقافتها الشعبية.
ومن أبرز هذه الكتب ما جاء في مؤلفات المستشرق الألماني ليو راينش (Leo Reinisch) الذي كتب عن قبائل الساهو في وقت مبكر جداً، وتحديداً سنة 1865، أي قبل أكثر من 150 عاماً، بل يمكن القول إنه قبل حوالي 250 عاماً وفق بعض المصادر. هذا الكتاب محفوظ في جامعات مرموقة مثل جامعة جنيف وبرلين، وخاصة في قسم الدراسات الأنثروبولوجية.
كما أذكر أنني اطّلعت لأول مرة على هذا التراث سنة 1977، عندما بدأت جمع مواد بحث الماجستير، وكان له أثر كبير في تعميق فهمي للثقافة السهاوية. وبعد ذلك وجدت أيضاً العديد من الدراسات التي كتبها الباحثون الإيطاليون عن هذه القومية، مما يدل على أصالتها وأهميتها التاريخية.
ومن هنا، أؤكد أن كتابي لم يكن منحازاً، بل حاولت من خلاله أن أتناول التجارب القومية في إرتريا بقدر ما تسمح به المادة المتوفرة، وبما يتيحه مجال الحرية الشخصية للتوثيق العلمي القائم على المعرفة والموضوعية.
ما رأيك في مصطلح القوميات في إرتريا؟
القوميات واقع تاريخي، وليس اختراعًا سياسيًا. المشكلة حين يتم استخدامها للإقصاء أو التفرقة كما فعلت الجبهة الشعبية. يجب أن يكون الاعتراف بها مقدمة للعدالة لا أداة للتمزيق.
كيف ترى موجة الكتب عن القبائل والشخصيات؟ هل تخدم الوحدة الوطنية؟
إذا كُتبت بهدف التوثيق العلمي، فهي مفيدة. لكن حين تُستغل سياسيًا لتعميق الانقسام، تصبح خطرًا. يجب أن نكتب عن قومياتنا دون خجل، لكن في إطار وطني.
حدّثنا عن الثقافة الوطنية والثقافة الفرعية؟
الثقافة الوطنية يجب أن تكون مظلة جامعة، تعترف بالثقافات الفرعية وتمنحها حق التعبير. أما محاولات الهيمنة الثقافية بلون واحد، فهي تؤدي للتنافر.
هل تتآلف الثقافتان أم تتنافران؟
في ظل العدالة تتآلف، وفي ظل التمييز تتنافر. الغالبية المتحكمة للأسف سعت لتهميش بعض المكونات، وهو ما خلق فجوة ثقافية وسياسية.
هل يتوافق واقع النظام مع شعاراته عن وحدة اللغات الوطنية؟
لا، للأسف. النظام يقول شيئا ويفعل نقيضه. تبنّى رسميًا التعدد اللغوي لكنه فعليًا استخدمه كأداة إقصاء للعربية، وأحيانًا لغيرها، ضمن مشروع تفكيك وطني مُمَنهج.