أ.محمد خير عمر: أدوات صناعة التغيير
 
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين.
مدخل
«إنَّ أيَّ مجتمعٍ عضوي يقوم على تغليب البعض على الكل، والجزء على الكيان، والخاص على العام؛ هو مجتمعٌ يُعزِّز ويؤسِّس لمبدأ تهميش الأغلبية، بدلًا من تأسيس مجتمع يحكمه قانون عام أساسُه الفلسفي والحقوقي كرامة الإنسان».
منقول بتصرّف.
وأيُّ فكرٍ استراتيجيٍّ لأيِّ أمَّةٍ من غير سندٍ تاريخي وجغرافي هو مسكنةٌ سياسية وروحٌ اجتماعيةٌ منهزمة. فلا بدَّ من استصحاب التاريخ؛ فلا يمكن صناعة الوعي من غير ذاكرة تاريخية. فالتاريخ والجغرافيا مهمّان في قراءة الأحداث الجارية والمحتملة؛ فالتاريخ هو الرافعة التي تسند إليها الأمَّة مرفقها وهي تتكئ على تراث الملك النجاشي:
«بها ملكٌ عادلٌ لا يُظلَم عنده أحد» (حديث).
إنها أرضٌ شهدت طفولة الإسلام — إن صحَّ التعبير — وكانت له كحضن أمٍّ رؤوم حتى شبَّ عن الطوق.
وممّا يُشعرك بالزهو أن رسول الله ﷺ طلب من مهاجري الحبشة ألَّا يأتوه في المدينة؛ لأنَّ منسوب المخاطر كان عاليًا، وطلب منهم البقاء هناك في أرض الهجرة.
هل يعني هذا أنَّ آمَنَ وأفضل مكانٍ لحفظ عيّنة من الإسلام كان أرض الصِّدق؟ ياله من احتمالٍ تزهو به هذه الأمَّة بين الأمم، وترتقي به في سلَّم الأولويات؛ فعندما تفاخر الأمم بتاريخها كانت هي ثاني اثنين في أسلمة المكان بعد مكة المكرمة، وهنا تنتهي المنافسة: فوق هام السحب وإن كنت ثريًّا.
ويذكر مؤرِّخون وباحثون — كالمؤرِّخ الإسلامي الكبير محمود شاكر — أنَّ الهجرة كانت إلى إرتريا، وكذلك الأستاذ وضَّاح خنفر بعد بحثٍ وتحقيقٍ يؤكِّد أنَّ النجاشي كان داخل الجغرافيا الإرترية بحدودها الحالية. وقرأتُ لكاتبٍ أمريكيٍّ يقول: إنَّ قبور الصحابة في منطقة تقراي قد نُقِلَت رفاتُها في القرن الخامس عشر الميلادي إليها، ولم يكونوا مدفونين هناك أصلًا. وكان إسلامُ أهلها على مستوى الملوك؛ وهي إشارةٌ موضوعيةٌ إلى أنَّ الملوك وأحفادهم عادةً لا يقبلون الضيم ولا يساومون على المبادئ والقيم الإنسانية.
وفي حقبة الاستعمار الإيطالي لإرتريا قيل: إنَّ بعض المسيحيين من أذلَّة السكان وأكثر قدرةً على التلوُّن، بخلاف المسلمين؛ فقد كانوا معتزِّين بأنفسهم، والمسلمون ملوك، والملوك لهم حصانةٌ من التقول عليهم وعلى حقوقهم.
أمّا الجغرافيا فهي أرضُ الصدق — شهادةٌ نبوية — لا يُبليها الزمان ولا يُلغيها قانون؛ فهي فوق القانون، سقفُها السماء، وصلاحيتها ضمان عدلٍ في الأرض. وهي تصنَّف ضمن الأرض التي تقوم عليها أمَّة الوسط الخيِّرة، وبالتالي فهي جزءٌ من الجغرافيا المقدَّسة التي لا يجوز التفريط فيها باعتبارها وقفًا إسلاميًّا.
وإضافةً إلى النوافذ الثقافية والدينية والعرقية التي تطلُّ منها على الأمَّة العربية والإسلامية، فإنَّ الوشائج الثقافية والامتدادات الجغرافية مع السودان وجيبوتي واليمن والحجاز تمنحها عراقةً وأصالةً وفخامةً تأبى على النسيان والاندثار. وموقعها الجغرافي المتميِّز يجعلها في قلب الأحداث وفي عين العاصفة، كما يجعلها مطمعًا لبعض الجهات.
الفصل بين اللغة العربية والإسلام
الفصل بين اللغة العربية والإسلام في إرتريا يجعل الأمة تموت إكلينيكيًّا؛ فالأمم عادةً لا تحيا إن ماتت لغتها، ولا تُبدِع وتُظهر ممكناتها إلا من خلال اللغة، ولا يثبت لها التمسُّك بالمبادئ والقيم إلا من خلال الدين، ولا تكون صافيةً في فضاء الحياة والوطن إلا بجناحي الدين واللغة؛ وإلَّا كان وجودُها لغوًا ولهوًا. نموذج: مهرجانات «ماي تقرَّات» وأخواتها.
يقول الرافعي:
«الذي أراه أنَّه لا ينهض الشرق العربي إلَّا على أساسٍ وطيدٍ من الدين الإسلامي واللغة العربية».
ونحن في قلب الشرق العظيم، ونبضُنا من نبضِه، لا نحيا إلَّا في حضنه الكبير.
وفكرة دولة إرتريا المستقلة — في مجملها وتفاصيلها النضالية — هي فكرة الأمَّة المسلمة في إرتريا، والحراك السياسي الذي خاضته في تلك الحقبة كان من أجل الاستقلال. وحين لم يُثمِر الحراك السياسي والسِّلمي — بفعل فاعل خارجي (أمريكا) وداخلي (اندنت) — تطوَّرت الفكرة إلى عملٍ نضاليٍّ موسَّع؛ فكانت انطلاقة الثورة المسلحة، وكانت صرخة عواتي في أدال.
ونحن بحاجة ماسّة إلى نخبةٍ تنتمي إلى المجتمع لا إلى الامتيازات؛ نخبةٍ متجذِّرةٍ في واقع المجتمع، تُمارس نقدًا يصحِّح المسيرة ويترصَّد النتائج، لا جلدَ ذاتٍ ولا ارتماءَ في حضن التذمُّر والاحتجاج والشكوى السلبية. نخبةٌ تُجسِّد الالتزام بالمبادئ لا اللهث خلف المنفعة، تنتمي إلى مجتمعها لا إلى الامتيازات والحيازات؛ نخبةٌ من رحم المجتمع واعيةٌ بمعاناته، لا نخبةٌ من مختبراتٍ ودهاليز الربح والخسارة.
نخبةٌ لا تجعل من القضية مصدرًا للمكاسب الشخصية والمنفعة الفردية، تُستنبت على جرح الأمة ومأساتها حقولُها الوردية، وتكون الأمةُ عندهم مجرَّد سرديةٍ يُضمِّنونها مذكِّراتهم.
من أدوات التغيير
- إنَّ الدعوة إلى التعايش مع شركاء الوطن من غير إعدادِ القوة تعبيرٌ عن الحالة الغثائية ليس إلَّا.
- يجب اعتماد الثورة خيارًا استراتيجيًّا لا بديل عنه؛ فالوضع الراهن في الوطن لا يُفلِح معه شيءٌ إلَّا آخر الدواء الكيّ. ونقصد بالثورة كلَّ ما تقتضيه من أدواتٍ ومعطياتٍ وشراكاتٍ وتنسيقٍ مع جهاتٍ مماثلة، واتفاقاتٍ مع خصوم النظام بشرط ألَّا تضرَّ بالوطن؛ فالسيل في بدايته وعنفوانه يستصحب معه ما ليس منه، ثم ما ينفع الناس يمكث في الأرض.
- التعايش مع شركاء الوطن يجب أن يخرج من دائرة النوايا الطيبة إلى دائرة اليقظة، ومن ضبابية التعايش السلمي إلى دائرة الردع. علينا بالمواجهة؛ وهي فعلٌ يتطلَّب نسبةً عاليةً من المخاطرة، ونسخةً عالية الجودة من المواطنة الحادبة على الدين والوطن معًا. فالسلبية تراهن على الاستقرار بزعم أنَّ قرار إسقاط النظام يُنتج الفوضى، مع أنَّ كلَّ شيء في الوطن آيلٌ إلى السقوط — إن لم يكن قد سقط بالفعل.
- أحيانًا، الضرب على عنصر الخوف وشحذ الإحساس بالخطر يأتي بالناس إلى الحاضنة المجتمعية؛ فالتخويف وسيلةٌ ناجعةٌ لجمع شتات الأغنام من الأودية إلى الراعي. وعدمُ التماسك والتعاضد في هذه الفترة العصيبة تهديدٌ للوجود الإسلامي وانحدارٌ إلى وهاد الضياع والسباع والضباع؛ وهو نوعٌ من التماهي مع رغبة النظام في التشظّي، ثم التحوُّل إلى مجتمعٍ غجري بلا حقوق، وواجباتٌ مضاعفةٌ تُهدَر فيها الحقوق حتى تبلغ درجة العبودية.
- قوَّتُنا الحقيقية في وحدتنا وتماسكنا.
- لا بدَّ أن نُعلِن عن هويَّتنا الإسلامية بوضوح؛ فهي التي تجعل منَّا «الآخر» بكل ما تعنيه الكلمة من حقوقٍ سياسية، وشراكةٍ في الموارد، وعدالةٍ في التعامل، وحقِّ الاختلاف في الدين والقيم، وخصوصية العادات والتقاليد.
- ضربُ الثقافة هو ضربٌ للوعاء الجامع وإضرارٌ بالوحدة المجتمعية المسلمة.
- فرضُ معادلةٍ جديدةٍ على النظام يحتاج إلى وحدة الكلمة ووعيٍ بالواقع الذي تجتازه البشرية؛ فهناك مفاصل تاريخية سننية تتشكَّل الآن بعد طوفان الأقصى؛ الكلُّ يسعى فيها إلى تحقيق مكاسب سياسية، ومفاصلُ القضبان التاريخية لا تزال ساخنة يمكن تشكيلها بالفعل البشري؛ فإذا بردت استقرَّت ومضت سنَّةٌ تاريخيةٌ حتى تنتهي دورتُها. فلا بدَّ من ملاحقة اللحظة التاريخية العابرة قبل استقرارها، للعبور بها إلى منطقة الكرامة الدافئة.
فقانونُ التغييرِ أساسُه فعلٌ بشريٌّ معزَّزٌ من الله:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
كما ينبغي أن نضع في حسباننا ما يُسمَّى «متلازمة ستوكهولم»: ظاهرةٌ نفسيّةٌ شاذَّة تُصيب بعض أفراد المجتمع عندما يتعاطف أو يتعاون أفرادٌ منه مع عدوِّهم أو من أساء إليهم بشكلٍ من الأشكال، ويُظهرون له الولاء.
وكثيرٌ من المسلمين — للأسف — غائبٌ عنهم الجوهر المركزي للإسلام؛ لذلك يُعبِّرون عنه بما يتواءم مع ما تريده الثقافة الغالبة. الحياد في ظرفنا هذا جُبن، والصمت هنا ليس من ذهب، بل يُصنَّف في خانة التواطؤ مع العدو قولًا واحدًا.
ولا ننسى أنَّ من طبيعة الأنظمة الاستبدادية تصنيفَ المجتمع على أساسٍ عِرقيٍّ أو طائفيٍّ وجعله شِيَعًا لتمرير عمليَّتي الإقصاء والإلغاء:
﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَهُمْ، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4].
لا بدَّ من أمرين:
- التماسك الداخلي للمجتمع المسلم.
- أن تكون هذه الوحدة من خلال الدين لا من خلال المواطنة وحدها؛ فالدين أسرع فاعلية وأكثر قدرةً على ترسيخ الهوية والصمود في وجه العواصف.
وعلينا ألَّا نركن إلى الذين ظلموا بحجة مصلحة الوطن وحق الشراكة في المواطنة ونحوها من المصطلحات الانصرافية التمييعيّة، حتى لا يموت هذا الحراك بتوسيع مواعين المطالبات والشراكات؛ وفي زخم ذلك يتلاشى الحق، وتضيع الحقوق، وتنفلت الفرصة من بين أيدينا.
خاتمة
فرصة + إرادة = توفيق.
فرصة − إرادة = خذلانٌ وخيبة.
فلابد من منهجيَّةٍ في التفكير وفروسيَّةٍ في الفعل:
إذا كنتَ ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ
فإنَّ فسادَ الرأيِ أن تتردَّدا.
محمد خير عمر

 

 
 
 
 
