أخبار زاجل

أ.ابراهيم قارو. الدين كأداة هيمنة: تفكيك التحالف الأرثوذكسي-السياسي في إثيوبيا وإرتريا

لطالما شكّلت الكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا وإرتريا حجر الزاوية في بناء السلطة المركزية، لا باعتبارها مؤسسة دينية فحسب، بل كفاعل رمزي وسياسي في آنٍ واحد. ومع تصاعد التحولات السياسية والدينية في القرن الإفريقي، تجد هذه المؤسسة نفسها أمام تحديات جديدة تُربك تموضعها التاريخي وتفتح الباب أمام مساءلة دورها في تشكيل الهوية الوطنية ومشروع الدولة.
في هذا المقال، يحاول الكاتب قراءة العلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية والسلطة من خلال تحليل سياسات آبي أحمد وأسياس أفورقي، ونتتبع كيف يُوظف الدين كمورد للشرعية في ظل تصادم المركزية القديمة وصعود قوى اجتماعية وهوياتية جديدة تسعى لإعادة تعريف الدولة ومصادر سلطتها.

نترككم مع هذه القراءة التي تتقصى دور   الكنيسة الأرثوذكسية في صراع السلطة والهوية.

قراءة فكرية وسياسية بقلم أ. إبراهيم قارو في مقال البروفيسور جلال الدين محمد صالح بعنوان: “الكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا وإرتريا وسياسات أفورقي وآبي أحمد في التعامل معها”.

لا يسع القارئ المنصف إلا أن يثمن عالياً الجهد الفكري والمنهجي الذي بذله البروفيسور جلال الدين محمد صالح في هذا المقال من حيث دقته في تشريح البُنى الرمزية للسلطة الإثيوبية وجرأته في إعادة قراءة موقع الكنيسة الأرثوذكسية داخل مشروع الهيمنة الإثنية والتاريخية.
المقال يتجاوز السرد التقريري ليُقدم رؤية تحليلية ذات عمق نظري لافت تجمع بين استبصار تاريخي ورؤية سياسية نقدية. وهذا ما يُضفي على النص بعداً تأويلياً يجعل منه مساهمة ضرورية في إعادة التفكير في مفاهيم السيادة والهوية والمشروعية داخل الدولة الإثيوبية الحديثة.
وقد امتاز التقييم السياسي فيه بنبرة متزنة لا تُخضع الوقائع للأهواء بل تُعيد ترتيبها ضمن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية.
اولاً. القراءة الفكرية.
ينطلق المقال من فرضية صلبة حول الدور الوظيفي للكنيسة الأرثوذكسية باعتبارها حارساً للهوية الإمبراطورية وركيزة رمزية للهيمنة المركزية. هذه الفرضية تفتح المجال لإعادة قراءة التاريخ الديني في اثيوبيا لا كمجال روحي محايد بل كبنية سلطوية لعبت دوراً مباشراً في تشكيل الوعي القومي وفق شروط الدولة المركزية.
المقال يستنطق التاريخ الكنسي بطريقة نقدية ويعيد موضعته في قلب سؤال الدولة والهوية.
تبقى الإشارة الى عدم التعمق المقال في نقد بنية الكنيسة الطبقية وشراكاتها التاريخية مع مشاريع الهيمنة الإمبراطورية كملاحظة ذات صلة.
فبينما يُظهر المقال الكنيسة كفاعل إقصائي إلا أن بنيتها الداخلية كمنظومة سلطوية تستند إلى تراتبيات اجتماعيه ورأسمال رمزي لم تفكك بالكامل.
ومع ذلك يُحسب للمقال أنه يقارب المؤسسة الأرثوذكسية من زاوية وعيها السلطوي المضاد للفدرالية ويُظهر كيف أن مركزتيها الدينية تتآكل اليوم في ظل صعود قوى اجتماعية ودينية جديدة خاصة في أقاليم اروميا حيث بات الإسلام والتيارات البروتستانتية تمثل مظاهر متنامية لإعادة تشكيل الهوية الثقافية والسياسية. وهنا تبرز ضرورة طرح سؤال: هل هذا “التمكين الإسلامي الذي أشار اليه المقال هو مجرد تصحيح تراكمي للمظلومية التاريخية أم انه يتأسس على أجندة سياسية تتجاوز الحق الديني إلى التمثيل السياسي الفعلي؟
هذا السؤال لا ينفي أهمية تحرر المسلمين من التهميش لكنه يفتح النقاش حول حدود الدور السياسي للدين في ظل ترتيبات سلطة هشة ومتغيرة.
القراءة السياسية
على المستوى السياسي يقدم المقال قراءة دقيقة للعلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية والنخبة الأمهرية بوصفها علاقة لم تُقطع بعد رغم تحولات النظام السياسي وتغير طبيعة الدولة. الكنيسة لا تزال فاعلاً سياسياً يحاول إعادة تأطير نفسه لا كراعٍ روحي بل كمدافع عن سردية وطنية تهددها التعددية الفيدرالية.
وقد تجح المقال في رسم خارطة تحالفات دقيقة بين المؤسسة الأرثوذكسية ودوائر النفوذ السياسي مع الإشارة الى حصر المقال الحديث عن أيديولوجية أروميا في ثنائية الكوشية والإسلامية دون الإشارة الكافية الى تعقيد التحالفات الداخلية للأورومو أنفسهم خاصة بعد تآكل شعبية آبي أحمد في أوساطهم. فالتيار الأورومي ليس موحداً بل تتقاطع فيه المصالح الجهوية والقبلية مع نزاعات على تمثيل” أوروميا السياسية” في المركز.
وبموازاة هذا المشهد كذلك نشير الى غياب التحليل عن موقع الإسلام السياسي كقوة تفاوضية داخل تسويات السلطة الجديدة. المقال يشير إلى تحولات دينية دون أن يستقصي طبيعتها السياسية ولا يتوقف عند ما إذا كان صعود التمثيل الإسلامي في مؤسسات الدولة نتيجة دينامية دينية طبيعية أم تحولاً وظيفياً تم بتواطؤ من مراكز القرار لخلق توازنات جديدة أمام الكنيسة الأرثوذكسية.
وإذا ما نظرنا الى العلاقة الإرترية الإثيوبية فإن تعامل اسياس أفورقي مع المؤسسة الأرثوذكسية بوصفها حليفاً ضمنياً في مواجهة التيارات الفيدرالية يكشف مفارقة بنيوية في خطابه السياسي. فالرجل الذي طالما رفع شعارات العلمنة والسيطرة الكاملة على الفضاء الديني لم يتردد في توظيف الرمز الكنسي حين بات ذلك يخدم تحالفاته في الهضبة رغم أنه يقمع الإسلام السياسي بصرامة في الداخل ويفكك كل تمظهر ديني لا يخضع لسلطة الدولة.
خاتمة:
مرة أخرى تحية وتقدير للبروفيسور جلال الدين محمد صالح على هذا العمل النوعي الذي لا يكتفي بتفكيك مؤسسة تاريخية بل يدفع القارئ لإعادة التفكير في طبيعة الدولة الإثيوبية ذاتها وحدود مشروعها الوطني في ظل التصادم بين رموزها القديمة ومطالب التعددية الجديدة.
إن ما يكشفه المقال وإن كان ضمنياً هو تصدع المركزية الأرثوذكسية كمصدر تاريخي للهوية الوطنية في مقابل صعود ما يمكن تسميته ب”رؤية وطنية بديلة” تقوم على التنوع اللغوي واللامركزية السياسية والاعتراف بالتعدد الديني.
هذه الرؤية رغم عدالتها – لم تتبلور بعد كمشروع جامع وتظل مهددة بالاختزال في صراعات مذهبية أو إثنية دون أن تتجسد في تصور جديد للدولة.
في المقابل فإن استثمار أسياس أفورقي في الكنيسة كحليف ظرفي ضد المشروع الأورومي رغم عدائه الصريح للإسلام السياسي ومجمل التيارات الدينية في إرتريا يكشف التوظيف الانتقائي للدين كأداة تحكم لا كقناعة أيديلوجية. وهذا ما يُبرر أن المعركة ليست بين الإسلام والأرثوذكسية ولا بين أورومو وأمهرا بل بين تصورين للدولة: أحدهما يعترف بتعدد الهويات ويبحث عن صيغة جامعة وآخر يتشبث بسردية مركزية تسعى لاحتكار المعنى التاريخي والسياسي نحت عباءة الدين أو القومية أو كليهما.
وعليه فإن ما نحتاجه في المرحلة المقبلة ليس فقط تفكيك البُنى الرمزية القديمة بل بلورة بديل سياسي أخلاقي يُؤسس لدولة لا تدار بالرموز المقدسة أو توازنات الهويات بل بعقد مدني يضمن التعدد ويحمي المجال العام من احتكار الحقيقة.

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى