البروف جلالل الدين. من “فزاعة الإسلام والعروبة” إلى “شبح أوروميا”: أفورقي يعيد تدوير الخوف القومي
أفورقي من التخويف بالإيديولوجية العربية والإسلامية إلى التخويف بأيديولوجية أوروميا.
ظهر لي أن أربط في هذا التحليل بين خطاب الرئيس إسياس أفورقي، هذا العام 2025م، بمناسبة الاستقلال الرابع والثلاثين، وبين ما صرح به وزيره السيد يماني جبر آب، لجريدة (المصري اليوم) في مقابلة له معها، بتاريخ 15/11/2017 معاتبا التجراي، في فجورهم بالخصومة – حسب رؤيته – حيث قال وقتها: “استطاع الجانب الإثيوبي، أن يعزل نفسه، ونجح في خلق مواجهة مع النظام الإرتري، بالرغم من أننا أقرب لهم جغرافيا، وسياسيا، وأقرب أيضا لعناصر النظام في إثيوبيا، نظرا لانتمائنا لقومية التجرنية “.
والعلاقة بين تصريح الوزير يماني، وخطاب الرئيس غير المنتخب، أن كلا منهما يتكلم بمنطق الانتماءات القومية، وعصبيتها، في العلاقات السياسية، فبينما يقول يماني: إننا أقرب لعناصر النظام في إثيوبيا، نظرا لانتمائنا لقومية التجرنية، نرى إسياس أفورقي، يرفع عقيرته في خطابه هذا، بالتخويف مما أسماه ” أيديولوجية أوروميا [1] “.
وأوروميا – كما هو معروف – هي إحدى القوميات الإثيوبية، وأكثرها عددا، والملاحظ في خطابه، أنه طرحها في سياق توضيح النظام خلاصة تصوراته لتعقيدات الحالة السياسية الدولية، والإقليمية، وقدمها على أنها نعرة تطلعية في ذاتها، ومشكلة قائمة فعلا في وجودها، ولكنه – في الآن نفسه – وصفها بالمعزولة، حيث نفى عنها التمثيل الحقيقي لشعب أوروميا، حين قال: “لا تمثل الشعب الأورومي “.
وعرفها على أنها معضلة، حين أدرجها ضمن ما وصفه بـ(الذرائع، والشعارات، والأجندات المتهورة) إذ قال عنها في السياق نفسه: “معضلة العداء الكوشي السامي“.
ويعني – فيما يفهم منه – أنها قديمة، وما زالت مستعصية على الحل، ونُفِخَ فيها الروح من جديد، وهو بالطبع يشير هنا إلى الصراعات التاريخية، بين الأوروميين، وملوك الأكسوميين.
ولازم منطقه هذا، أن التحالف الذي يقوده حاليا، والمكون إلى جانبه من الأمهرى، وشق من التجراي، هو في حقيقته ليس فقط ضد نظام الدكتور أبي أحمد، في أديس أبابا، وإنما يستهدف معه (أيديولوجية أوروميا) التي يحملها (معضلة العداء الكوشي السامي).
وقد نددت الجبهة الأورومية الإثيوبية بهذا الخطاب، في بيان أصدرته بتاريخ 26/5/2025 مؤكدة أنه يخلق أزمات أعمق في القرن الأفريقي، ولا يمثل إلا محاولة إعادة الهيمنة على الشعوب الأخرى، تحت ستار الدفاع عن السيادة.
وأيا كانت مرامي إسياس أفورقي، فإن الذي يجب ألا ننساه، أنه يبني صراعاته السياسية على قضية يختلقها من عنده، أو ينبشها من مدفنها؛ ليجعل منها محور استراتيجيته؛ في إدارة الصراع مع المخالف، والتعبئة ضده.
ولعلنا نتذكر أنه توجه في السيتينيات – عهد الكفاح المسلح – بوثيقة (نحن وأهدافنا) إلى الأكسوميين أنفسهم، مخوفا إياهم، من أيديولوجية العروبة والإسلام، التي تحملها – في زعمه – جبهة تحرير إرتريا، مستنفرا حميتهم القومية؛ ونجح فعلا في تضليل بعضهم، وتزييف وعيهم.
واليوم وفي هذه اللحظة من صراع الدولة، يعتمد الاستراتيجية نفسها، فعلى الصعيد الدولي شخَّص الخصم في أمريكا، وشخَّص الصين حليفا لمواجهة سياساتها في المنطقة، وأيضا غير خاف انحيازه إلى روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي.
وعلى الصعيد الإقليمي، حدد مكمن الخطر الحالي فيما أسماه (أيديولوجية أوروميا) بعد أن حدد مصدره من قبل في (أيديولوجية الإنقاذ الإسلامية في السودان) وقد أعاد ذكرها في خطابه، محملا إياها مسؤولية ما حاق بالسودان، من انهيار واحتراب، بعد أن ظل السودان – في نظره – يشق طريقه بأمان نحو التقدم، منذ 1956م، حتى أصابته بلية الإنقاذ عام 1989م، وفق تعبيره!.
وكل هذا تخويف موجه بالدرجة الأولى والأساسية، إلى الأكسوميين أنفسهم، الذين خاطبهم من قبل، بالمشاعر التخويفية نفسها، في عهد الثورة، بخلق عدو وهمي، يكسبه تعاطفهم وولاءهم القومي؛ لمآرب في نفسه، فإنهم قوم جبلوا على تقديس الزعيم، ورهاب من حولهم.
وعلى أساس هذه الاستراتيجية، نراه اليوم يبني تحالفه الجديد، ومن هذا المنطلق، نسمعه يقول في الخطاب نفسه: ” لقد اتخذ الشعب الإثيوبي قراره بالفعل وهو يستعد لتعزيز معارضته“.
ولم يفته أن يؤكد – باسم الشعب الارتري – وقوفه مع هذا التحالف المعارض، حين قال: “إن شعب وحكومة إرتريا لا يندمان على دعمهما المطلق الذي قدماه بقوة، وآمال عريضة لتصحيح الإصلاح المزعوم “.
ويعني بالإصلاح المزعوم، إصلاحات أبي أحمد، وقد مكنت الأوروميين، ومعهم الفئات المهمشة، من إحراز مكاسب سلطوية، ظلت محرمة عليهم، طوال حكم أباطرة الأمهرى، والتجراي، وهو ما يزعج السامية الأكسومية، ويزيد من مخاوفها المستقبلية.
وهذا وإن كان ليس غريبا في تفكير إسياس أفورقي، وأسلوب إدارته للصراع مع الآخر المخالف، إلا أنه يعد تطورا خطيرا جدا، ومهددا كبيرا لأمن المنطقة واستقرارها، وأراه يعبر عن هلاوس العقل الباطني الأكسومي المتوجس خيفة من الغير، الذي تردده بشكل علني، مجموعة أجعزيان المتطرفة، وربما ذَكَّرَ في رسائله المتوارية خلف الستار، بحروب الإمام أحمد جري الكوشي، ضد يكونو أملاك، ملك السامية الأكسومية، ونبشها من جديد.
وأسوأ ما فيه، أنه يَحْرِفُ عصبية الانتماءات العرقية، بشأن السلطة والثروة، نحو الوجهة الخاطئة المدمرة، العنيفة والدموية، ليس في إثيوبيا وحدها، وإنما فيمن حولها من الدول المجاورة، والملاصقة، إذ الكوشية ليست فقط مكونا إثيوبيا، كما السامية أيضا، وإنما لكل منهما وجوده العريق، في السودان، وإرتريا نفسها، والصومال، وجيبوتي.
وكان الأجدى والأنفع، حل إشكالاتها السلطوية، بلغة توافقية تصالحية، لا تهيجية تحشيدية، وتوظيف خصائصها القومية، في ترسيخ قيم التعايش السلمي، على أساس توزيع عادل للسلطة وحقوقها وواجباتها، ومعالجة إشكالية المنفذ البحري لإثيوبيا، وفق حلول مناسبة، ترضي كل الأطراف، دون المساس بالسيادة الوطنية لإرتريا.
ولذا عندما يلجأ كل من إسياس أفورقي، في خطابه هذا، ووزيره يماني جبر آب، في لقائه ذاك، إلى ملامسة هذه المشاعر العنصرية، في حل مشكلات السلطة والثروة، فإنهما لا يثيران فقط ما لا ينبغي إثارته، وإنما يستفزان شعوبا طالما عانت من الهيمنة والسيطرة الأكسومية، ويوحيان – ولو من طرف خفي – بأنهما يخوضان صراعا ساميا كوشيا، وأن السامية الأكسومية، باتت مستهدفة بالمَحْقِ والإذلال من الكوشية.
ومن جانبهم لن يفهم الكوشييون – في إثيوبيا وغيرها – من هذا الخطاب، سوى أن مطالبهم الشرعية مرفوضة من السامية الأكسومية، وأن التحالف القائم بين شق من التجراي، والأمهرى، والرئيس الإرتري حاليا، قائم على هذه المشاعر المعادية لهم، وأنهم المستهدفون.
وأنها تستبطن إدامة السيطرة عليهم، ما لم يضاعفوا من نضالاتهم، ومقاومتهم لمشاعرها العدائية والاستحواذية، ويحموا مكتسباتهم السياسية والاقتصادية والثقافية من الاستلاب.
وأن أي مساعي منهم؛ للحفاظ على مكاسبهم هذه، سيفسر من قبلها – ظلما – على أنه معاداة للسامية الأكسومية، وتأليب قومي ضدها، كما تدعي الأمر نفسه السامية الصهيونية، في فلسطين المحتلة، ضد السامية العربية.
ومن أقرب ما يشي به هذا الخطاب، أن الخلاف بين الأكسوميين، مهما بدا حادا بينهم، فإنه في النهاية لا يضرب الأعماق، ولا يهز الثوابت المشتركة، ولا يعني القطيعة الدائمة، ومن ثم محقا كان السيد الوزير يماني جبر آب، حين قال: لا مسوغ لهذا الخلاف، وما كان ينبغي أن يحدث أصلا، وإن كان اللوم – في نظره – يقع على نخبة التجراي، لا نخبة التجرنية في أسمرة.
ولكن نجح أخيرا إسياس أفورقي، في شق نخبة التجراي، وإحداث شرخ بينهم، باستمالة مجموعة منهم إلى صفه، ولا يبعد أن يكون ذلك نتاج ووليد هذه الهلاوس والوساوس القومية، التي نبه إليها أفورقي في خطابه، وسماها (أيديولوجية أوروميا).
وما أظنه يعبر إلا عما دار من حوارات ومداولات خفية وعميقة، بين الأطراف الأكسومية المتحالفة، بشأن فهم طبيعة الصراع الناشب بينهم وبين الدكتور أبي أحمد، وكيفية التعامل معه، وتناسي الخلافات الداخلية، ولو إلى حين.
ومن هنا قبل أن يكون هذا الوصف مجرد وصف استهجاني، لما أسماه أفورقي (أيديولوجية أوروميا)، هو بالدرجة الأولى رسالة علنية موجهة إلى الشعوب الأكسومية: الأمهرى، والتجراي، والتجرنية، عبر البريد الإرتري؛ لأخذ الحيطة والحذر، وإعادة التموضع، والتحرك بجدية ضد هذا الخطر في تقييمهم، بالالتفاف والتكتل حول هذا الحلف الجديد.
وكتبه/ الأستاذ الدكتور جلال الدين محمد صالح
لندن
28/5/2025
[1] – رسالة الرئيس إسياس أفورقي بمناسبة عيد استقلال إرتريا 2025 ERi – TV روجع بتاريخ 27/5/2025 على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=mbSsroQFb4k&t=903s&ab_channel=Eri-TV%2CEritrea%28Official%29