أ. إبراهيم قارو: أفورقي بين المناورة الإقليمية وضغوط السقوط
أسياس أفورقي بين المناورة الإقليمية وضغوط السقوط
دور المعارضة في إعادة تشكيل المعادلة
التناقضات بين الداخل والخارج
تُشكل شخصية أسياس أفورقي حالة فريدة في السياسة الإقليمية، إذ يجمع بين قبضة حديدية تُحكم سيطرته في الداخل ومهارة استثنائية في التلاعب بالتناقضات الإقليمية والدولية. هذا التباين في سلوك النظام بين الداخل والخارج يجعل من تقييم دوره معقدًا؛ حيث يبدو تارة كـ”دواء” للاستقرار الإقليمي، وتارة أخرى كـ”داء” يُفاقم أزمات المنطقة.
مناورات النظام الإقليمية ومحدودية استدامتها على الساحة الخارجية، يُتقن أفورقي استغلال التحولات الجيوسياسية لتعزيز مكانته. بعد اتفاق السلام مع إثيوبيا في 2018، ظهر وكأنه يسعى إلى إعادة تموضع إريتريا في قلب الديناميات الإقليمية، موظفًا موقعها الجغرافي على البحر الأحمر بوصفه ممرًا استراتيجيًا للتجارة العالمية لتعزيز نفوذه. هذه التحركات أكسبته دعم قوى إقليمية مثل السعودية والإمارات، اللتين رأتا في استقرار إريتريا ضمانة لمصالحهما في مواجهة النفوذ الإيراني والتركي. كما استفاد أفورقي من التنافس بين الولايات المتحدة، الصين، وروسيا ليكسب هامش مناورة أتاح له تحقيق مكاسب تكتيكية قصيرة الأمد. لكن هذه التحالفات ليست مستدامة، إذ إن أي تحول في أولويات القوى الدولية أو تراجع اهتمامها بالمنطقة قد يُفقد النظام غطاءه الخارجي، مما يُعريه أمام أزماته الداخلية. الافتقار إلى مؤسسات ديمقراطية واعتماده على الولاءات الشخصية يعمق هشاشته، مما يجعل دوره الإقليمي هشًا ومعرضًا للصدمات.
دور المعارضة في تضييق هامش المناورة:
استراتيجية الضغط والتحول في ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجه النظام الإريتري، يصبح دور المعارضة محوريًا في تقليص المساحات المتاحة أمام النظام للمناورة. يعتمد النظام على تأجيل الأزمات وتوزيع الولاءات لاحتواء الضغوط، لكن هذه الأدوات بدأت تفقد فعاليتها في ظل تصاعد التوترات الداخلية والتغيرات الإقليمية والدولية. هنا يأتي دور المعارضة في تقديم النظام بوصفه عبئًا على استقرار المنطقة، وتسليط الضوء على التكلفة الاقتصادية والإنسانية لاستمراره، مما يعزز عزلته ويُضعف تحالفاته
كيفية تجاوز انقسامات المعارضة: نحو جبهة موحدة
ورغم وجود فرص سانحة أمام المعارضة لاستغلال هشاشة النظام، فإن الانقسامات الداخلية وضعف التنسيق بين فصائلها تعيق قدرتها على تقديم بديل موثوق وفعال. ولكي تتمكن من استثمار الفرص الراهنة، يتعين على المعارضة تبني استراتيجيات ملموسة لمعالجة خلافاتها وتعزيز وحدتها:
تشكيل آليات تنسيقية فعّالة
إنشاء مجلس قيادي مشترك: يتطلب تشكيل مجلس قيادي يُدار بتوافق بين الفصائل المختلفة، مما يعزز الوحدة ويقلل من الخلافات. سيكون هذا المجلس مرجعية لاتخاذ القرارات الكبرى وتوجيه العمل السياسي.
الاتفاق على وثيقة سياسية مشتركة: صياغة وثيقة تحدد رؤية واضحة للمرحلة الانتقالية، بما في ذلك مبادئ العدالة والديمقراطية، لضمان التزام الجميع برؤية موحدة.
دمج الشباب والقوى المدنية في صفوف المعارضة
تمكين الشباب في صنع القرار: إشراك الشباب في مواقع القيادة داخل المعارضة يضمن تدفق أفكار جديدة ويعزز ديناميكية العمل.
تعزيز التواصل مع قوى المجتمع المدني: الانفتاح على المجتمع المدني سيساهم في بناء قاعدة دعم شعبية واسعة، مما يعزز شرعية المعارضة ويمنحها زخمًا داخليًا.
إعداد خطة واضحة للمرحلة الانتقالية
الاتفاق على ميثاق سياسي للمرحلة الانتقالية: ضرورة إعداد ميثاق يتضمن معايير واضحة للحوكمة خلال الفترة الانتقالية، بما يضمن الشفافية وتحديد المسؤوليات بدقة. هذا سيعزز الثقة بين مختلف الأطراف ويمنع الفراغ السياسي.
التحرك الداخلي:
يُعتبر التحرك الفعّال في الداخل العنصر الأساسي لتحقيق التغيير الحقيقي في إريتريا، حيث إن الجهود الدولية والإقليمية، على أهميتها، لا تكفي وحدها لتغيير الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب. يتطلب التغيير المستدام تعزيز المجتمع المدني والإرادة الشعبية، وهو ما يُعتبر الطريق إلى التقدم نحو الديمقراطية.
لتحقيق ذلك، يجب أولاً تعزيز الوعي العام حول الحقوق المدنية والسياسية، مما يحفز المواطنين على الانخراط بشكل فعّال في الحياة السياسية والاجتماعية. من خلال التنسيق بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية، يمكن تشكيل حركة شعبية قوية تُعبر عن مطالب المواطنين وتواجه التحديات التي يفرضها النظام الاستبدادي.
يتطلب هذا التحرك تطوير استراتيجيات مبتكرة تشمل التعليم والتوعية، مع التركيز على تفعيل دور الشباب والنساء في عمليات التغيير. يمكن لهذه الفئات أن تُسهم بشكل كبير في خلق بيئة مواتية للتحول الديمقراطي، حيث تُعتبر مصدرًا حيويًا للطاقة والابتكار.
إن التحرك الداخلي هو الذي سيعيد للمجتمع صوته ويُعزز ثقته في إمكانية تحقيق التغيير. بفضل هذه الجهود، يمكن بناء قاعدة صلبة نحو مستقبل أفضل لإريتريا، يسوده العدل والحرية، ويحقق تطلعات الشعب في حياة كريمة.
دور المجتمع المدني في دعم جهود المعارضة:
إلى جانب المعارضة السياسية، يلعب المجتمع المدني دورًا جوهريًا في تعزيز التحول الديمقراطي. ومن خلال التنسيق مع المعارضة، يمكن للمجتمع المدني أن يصبح قوة دفع إضافية في مواجهة النظام، سواء من خلال بناء الوعي أو تعزيز الضغط الدولي.
تعزيز التنسيق مع المعارضة السياسية
ورش عمل ومنتديات مشتركة: تنظيم لقاءات وورش عمل بين قيادات المجتمع المدني والمعارضة يعزز التنسيق ويخلق رؤية مشتركة للتغيير.
مبادرات لدعم اللاجئين: إطلاق مشاريع إنسانية تهدف إلى مساعدة اللاجئين الإريتريين يعزز مصداقية المعارضة، ويظهر التزامها بقضايا المجتمع.
التوعية وبناء القدرات
برامج تدريبية في الحوكمة وإدارة الأزمات: تقديم تدريبات تستهدف كوادر المعارضة لرفع كفاءتهم في إدارة الأزمات والتحضير للمرحلة الانتقالية.
تحفيز الشباب على الانخراط في العمل العام: نشر الوعي السياسي بين الشباب وتوجيههم نحو المشاركة الفاعلة في العمل العام يسهم في خلق جيل واعٍ قادر على إحداث التغيير.
تنظيم حملات ضغط دولي
حملات إعلامية لكشف انتهاكات النظام:
تنظيم حملات إعلامية دولية تسلط الضوء على الانتهاكات المستمرة يعزز الدعم الخارجي للمعارضة ويزيد من عزلة النظام.
تعزيز التشبيك مع منظمات المجتمع المدني الإقليمية والدولية:
التنسيق مع منظمات في دول الجوار يعزز من تأثير المعارضة على المستويين الداخلي والخارجي، ويفتح المجال لتعاونات تدعم جهود التحول الديمقراطي.
نحو بناء شراكة استراتيجية بين المعارضة والمجتمع المدني:
يعد تضييق هامش المناورة أمام النظام الإريتري مسؤولية تتطلب تنسيقًا فعّالًا بين المعارضة السياسية والمجتمع المدني. فالتكامل بين الطرفين يعزز الضغط الداخلي والخارجي على النظام، ويمنح المعارضة القدرة على تقديم نفسها كبديل جاد. كما أن الانفتاح على الشباب وتمكين القوى المدنية يُرسخ قاعدة اجتماعية أوسع تضمن استمرارية الحراك نحو التغيير. وفي ظل التحولات الإقليمية والدولية التي تزيد من عزلة النظام، يبقى التحدي الأكبر هو قدرة المعارضة على تجاوز خلافاتها وبناء خطاب سياسي مرن ومتكامل. ومع الاستعداد المسبق لمرحلة انتقالية شاملة، تصبح المعارضة أكثر قدرة على قيادة البلاد نحو مستقبل ديمقراطي مستقر يُحقق العدالة ويعيد بناء الثقة بين مكونات المجتمع.
مستقبل النظام في ظل تصاعد الضغوط:
يعتمد استمرار نظام أسياس أفورقي على استراتيجية إدارة الأزمات من موقع ضعف، مرتكزًا على تأجيل الحلول بدلاً من معالجتها بشكل جذري. هذا النهج، وإن كان قد منح النظام فرصة للبقاء لعقود، إلا أنه بات يشكل عبئًا متزايدًا مع تفاقم الأزمات الداخلية وتصاعد الضغوط الإقليمية والدولية. ومع ازدياد التوترات الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، وتغير مواقف بعض القوى الدولية، تبدو قدرة النظام على المناورة محدودة بشكل غير مسبوق، مما يجعل بقاءه أكثر هشاشة وأقل ضمانًا.
إدارة الأزمات من موقع ضعف:
تمكن النظام لفترة طويلة من الاعتماد على أساليب القمع والاحتواء للتعامل مع التحديات الداخلية، مثل البطالة والهجرة الجماعية، مستخدمًا أدوات أمنية صارمة لقمع الاحتجاجات المحتملة. غير أن هذه الأدوات بدأت تفقد فعاليتها تدريجيًا مع تصاعد وعي المواطنين وتزايد ضغوط الحياة اليومية. فقد أصبح المجتمع الإريتري، المثقل بالقمع والتهميش، أكثر استعدادًا للتمرد الصامت، ما ينذر بانفجار اجتماعي في أي لحظة. في موازاة ذلك، يفتقر النظام إلى استراتيجية اقتصادية فعالة لمعالجة الأزمات المتفاقمة، مما يعزز فقدان الثقة الشعبية في مؤسسات الدولة. ويُضاف إلى ذلك اعتماد النظام على شبكة ولاءات ضيقة داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية، مما يجعله عرضة للانشقاقات الداخلية في حال اختلال هذه الولاءات، سواء بفعل صراعات داخلية أو ضغوط خارجية.
الضغوط الدولية والإقليمية:
على الصعيد الخارجي، لم تعد القوى الدولية تنظر إلى النظام كعنصر استقرار في المنطقة، خاصة في ظل تدخله في شؤون دول الجوار وتسببه في تأجيج الأزمات الإقليمية. كما أن التغيرات الجيوسياسية في القرن الإفريقي، بما في ذلك النزاع في السودان والتوترات مع إثيوبيا، تُشكِّل تحديات متزايدة للنظام الإريتري. هذه الأزمات تهدد بتقويض أي مكاسب قد يحققها النظام على المستوى الإقليمي، مما يجعله عرضة لمزيد من الضغوط والعزلة.
في هذا السياق، يجب أن تدرك القوى الدولية أن الاستقرار في القرن الإفريقي لا يمكن تحقيقه دون معالجة القضايا الجوهرية في إريتريا، بما في ذلك حقوق الإنسان والديمقراطية. ومن هنا، تبرز أهمية الضغط الدولي كأداة للضغط على النظام لإجراء تغييرات حقيقية. فإذا استمرت الدول الكبرى في تجاهل هذه القضايا، فإنها ستجد نفسها أمام واقع متغير ومشاكل أكبر في المنطقة.
تحولات المعارضة ودورها في مستقبل إريتريا
مع تصاعد الأزمات، تصبح المعارضة الإريترية أكثر أهمية في رسم مستقبل البلاد. يجب على قادة المعارضة التركيز على بناء جبهة موحدة، تتجاوز الانقسامات التقليدية، مع تعزيز التنسيق مع قوى المجتمع المدني والشباب. من خلال تقديم رؤية شاملة ومتكاملة، يمكن للمعارضة أن تُظهر أنها البديل القوي والمستعد للقيادة في مرحلة ما بعد أفورقي.
تتطلب هذه العملية استراتيجيات فعّالة تركز على:
تقديم رؤية واضحة للإصلاحات: يجب أن تتبنى المعارضة برامج تتناول القضايا الحياتية الملحة للمواطنين، مثل تحسين الخدمات العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
إشراك المواطنين في صنع القرار: تعزيز الحوار مع المجتمع والشفافية في العمل السياسي يُسهمان في استعادة الثقة المفقودة.
التواصل الفعّال مع المجتمع الدولي
تسليط الضوء على الانتهاكات: توثيق وتقديم أدلة على انتهاكات حقوق الإنسان من قبل النظام يعزز من دعم المجتمع الدولي للمعارضة.
توسيع دائرة الدعم الخارجي: العمل على بناء تحالفات دولية تُساعد في الضغط على النظام لتغيير سلوكه وتطبيق الإصلاحات.
تنمية قادة المستقبل
استثمار في التعليم والتدريب: يجب على المعارضة والمجتمع المدني الاستثمار في تدريب الشباب وتمكينهم من القيادة، مما يُعزز من القدرة على مواجهة التحديات المستقبلية.
استشراف المستقبل:
في ظل المعطيات الحالية، يمكن القول إن التغيير في إريتريا أصبح ضرورة حتمية. بالنظر إلى الضغوط المتزايدة على النظام، تتزايد الفرص أمام المعارضة لتسريع التحول نحو الديمقراطية. ستلعب الشراكة بين المعارضة والمجتمع المدني دورًا محوريًا في تحقيق هذا التحول، حيث تُمكن من تعزيز الجهود لتحقيق الاستقرار والعدالة.
على الرغم من التحديات، يبقى الأمل في تحقيق تغييرات إيجابية، خاصة إذا نجحت المعارضة في تجاوز خلافاتها وتقديم رؤية موحدة للمستقبل. إذ يتطلب ذلك الاستمرار في الضغط على النظام وتحقيق تقارب مع المجتمع الدولي، مما قد يمهد الطريق نحو انتقال ديمقراطي يضمن حقوق الجميع.