مقالات وآراء

ذهب إلى الله فارس المنابر والمحافل ..

وفاة الشيخ الوقور محمد صالح إدريس أحمد خير رحمه الله .

رحمة الله تغشاك فأنت عند أرحم الراحمين ، شيخنا الوقور محمد صالح إدريس أحمد خير

ونشهد أن سيرتك جميلة، فقد تركت الذكر الحسن ، الذي يشهد به لك الأصحاب ، ويدعون ويترحمون ، فلعل الله يقبل دعاءهم واستغفارهم .وهذه تعازينا للأسرة الكريمة التي عرفت بالتدين المطبوع فهي تعيش الإسلام في تفاصيل حياتها مشهود لها بالتمسك بالدين، والسيرة العطرة فهو من تلك الشجرة الطيبة.

شرعية رواية السيرة :

تعرف الأشياء بعناوينها، وسيرة الإنسان شاهدة له أو عليه،  وليس العيب أن تخطئ لكن العيب أن تنكر أخطاءك ، وأن تمضي في إعادة انتاجها من جديد . والتوبة عنها شرف وخلق نبيل فالصحابة الكرام ذكرت النصوص الشرعية أنهم من خير الناس زمنًا ومكاناً وإيمانًا وجهادًا وتضحية وهذه السيرة الحسنة لم تمحُ عن بعضهم مواقف سالبة في حياتهم وكانت أخطاؤهم تدان وتعالج فوراً  ولا يزال المسلمون يقرؤون بفخر صفحتي كتاب الصحابة التائبة عن الذنْبِ والمحسنة بعد الخطأ ، أذكر ذلك حتى لا يتضايق قوم من  سرد سيرة الرجال بما فيها من مواقف صائبة  يقتدي بها أو خاطئة  يعتبر بها وفي التاريخ عبرة وهدى ، وهو مرآة أمينة   والشيخ محمد صالح إدريس أحمد خير من السابقين الأولين في العمل الإسلامي الأرتري ، قبل فتنة الانشقاق وظل في أحد أغصان الشجرة بعد الانشقاق ومع ذلك كان يعبر بوضوح وألم أن الانشقاق كان معصية توجب الاستغفار، والوحدة دين وبركة بخلاف التشظي والتشرذم فإنه هوان، يسوق إليه الهوى وشهوة السلطة وفتنة المال والجاه والعصبية الجاهلية أو في أحسن التأويلات التي تحسن الظن: ساق إليه الاجتهاد الخاطئ. احترامًا لمن تاب عنه وقبح ممارساته ولم يمجد دوما ذكراه القبيحة في وثائقه المنشورة ونحسب أنك من أهل  القدوة والصلاح و التوبة المغفور لهم بإذن الله  يا شيخ أبا أسماء.

يحمد لهم الفقه الجديد :

ولهذا أصبحت الإدانة تلاحق تلك المواقف غير التائبة وقد عجزت خطوتها التصحيحية  أن تصحح مسيرة ، وأن تقضي بالانقلاب الذي ادعى ” العزل ”  على مخالفيها كما عجزت أن تكون مبهرة في فعالها  بل  أخذت تقتدي بمن سبقها في الحوارات السلمية مع المخالفين مدركة فقه الواقع وأهميته في الإسلام  فحذفت اسم ” الجهاد ” وتواصلت مع  الفصائل المخالفة لها عقيدة وسلوكاً كما يحمد لها أنها هذبت من فقهها وسلوكها في مسائل فرعية كانت تعتبرها من أساسيات الدين التي توجب الولاء والبراء. والحمد الله على العافية وإن تأخر الشفاء وكلف العمل الإسلامي  الأرتري أثمانًا باهظة

شهادة حق  :

عرفت الشيخ محمد صالح  في المدينة المنورة طالبًا في إحدى كلياتها الإسلامية خلال ثمانينات القرن الماضي .  كان  من الرواد الذين يقتدى بهم ، عرفنا الدعوة والإدارة والعبادة والخلق النبيل عن طريقهم.

هادئ الطبع ، كان عفيف اليد واللسان ، نشيط في غير تهور ، يبادر إلى فعل الخيرات ، يرشد إليه ، ينصح به ، في لغة حكيمة محببة ، غير عنيفة  وغير كاسرة ، مؤلفة غير ممزقة ، كان آلفا ومألوفا .

سألت أحد مشايخ الحركة  الإسلامية  ، كان معه في تنظيم منذ أيام الدراسة والشباب واختلف مسارهما بعد الانشقاق سألته  عما يعرف من سيرة الفقيد  فقال :

لم نعرف غير الخير عن المرحوم الشيخ محمد صالح إدريس أحمد خير وقد بكينا على فراقه ميتاً كما بكينا على فراقه منشقاً مع الشيخ أبي سهيل وهو موقف لا يشبه سيرته العطرة من علم وفير ، وتاريخ عريق، وحسن بلاء مشهود  ومع ذلك كان كثير التواصل مع إخوانه بعيدًا عن الفجور في الخصومة  ولم يقم بالترويج للاجتهاد الخاطئ والدفاع عنه.

مذ عرفته وجدت فيه سمت العلماء مظهرًا ، وعبادة ، وبشاشة ، وحسن تواصل مع الآخرين من الأصدقاء والأصحاب والأهل والأحباب.نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله وما شهدنا إلا بما علمنا  . كان عضوًا في الحركة الإسلامية منذ نشأتها الأولى ، وكان من روادها الذين بني الكيان على أكتافهم بيده غرس العمل الطيب مع إخوانه .

موقف غريب :

روى لي من أثق به ، وهو ممن  يعرف الأسرة بتفاصيل أعضائها أن الشيخ إدريس أحمد خير والد الشيخ محمد صالح – رحمهما الله- كان يعيب على ولده الانشقاق مع جماعة أبي سهيل ويقول :(مِنْكُور ، مِنْكُور) ، – يقولها بلغته التقرايت متألمًا – منكراً مبشعاً كيف ذهبت الفتنة بولده محمد صالح العالم الفقيه المثقف وأبقت العافية بالوالد شبه الأمي إدريس على البيعة والوفاء للشيخ عرفة أحمد محمد أمير المجاهدين – رحمهم الله جميعاً –  وكان يتحدث بذلك مع صديقه الشيخ د.إسماعيل آدم – رحمه الله – الذي قال له : للناس أحوال وظروف والتوفيق من الله ، والحق أحق ان يتبع موصيًا له بالثبات على البيعة والوفاء بها إلتماساً لبركتها والثواب من الله

فتنة الانشقاق :

عند تعرض العمل الإسلامي لانشقاق بين جناح سلفي  وكان معهم غيرهم  وجناح إخواني وكان معهم غيرهم كان الشيخ محمد صالح  إدريس أحمد خير مع الجناح السلفي على خلاف المتوقع منه لأن تاريخه الطويل لم يكن منتميا إلى السلفيين فيه وإن كانت السلفية سلوكا تحيط به من كل جانب وتظلل حياته مثل بقية خريجي المدينة المنورة أو السعودية عامة  سواء كانوا إخوانًا أو أنصاراً  . لكن الانشقاق كان فتنة عصفت بعدد من أولى الأحلام الذين  ساقهم اجتهادهم إلى تأييد بيان الشيخ أبي سهيل محمد أحمد الذي صدر بتاريخ   1/ 8 / 1993م بعنوان بيان ( الخطوة التصحيحية )  وتم فيه إعلان  عزل القيادة الشرعية لحركة الجهاد الإسلامي الأرتري معتمدًا على تهم جزافية اتضح بعد مضي زمن  طويل أنها كانت غير صحيحة .ضخمها الهوى والتنافس غير الشريف وعدم القدرة على الصبر في كدر الجماعة 

بيان الانشقاق ( الخطوة التصحيحية) أبطله بيان مماثل صدر من قيادة الحركة الشرعية بتاريخ 13 أغسطس 1993م  ينفي التهم عن القيادة ويرفض العزل ويوضح أن الحركة انشق عنها فئة عسكرية غير محقة في موقفها ويؤكد أن حركة الجهاد – وان انشق عنها بعضها –   لا تزال في ميدانها تجاهد في سبيل الله وتستنكر فتنة الانشقاق وتقبحها .

تنافس مصطلحيين وسط المسلمين  :

وظل مصطلحا ” الخطوة ” و” الانشقاق ” يتنافسان في تنويرات الطرفين حتى رسا بعض العضوية إلى مناصرة طرف والبعض الآخر إلى مناصرة الطرف الآخر وأصبح السواد الأعظم مثبطًا ذهب به اليأس إلى دنياه وكياناته القبلية والعشائرية 

ومضى الطرفان  في سنواتٍ تالياتٍ ينشط كل منهما في الساحة بطريقته ووفق إمكانياته ويحيط الضعف بكلا الطرفين على الرغم من  أن طرف الانشقاق عاني من ألم الداء الذي كان يحسبه دواء مقارنة بعافية الهدوء والسلامة من التشظي التي تمتع بها الطرف الآخر مع ضآلة كسب الطرفين جماهيرياً مقارنة بالمرحلة ما قبل الانشقاق .

ميلاد تنظيم جديد  :

فقد عصفت بالمنشق الخلافات بعد سنوات يسيرة من الانشقاق الأول فانشق عن أبي سهيل الشيخ محمد أحمد رئيس ” الخطوة  ” شريكُهُ الشيخُ  أبو ياسين إبراهيم سعيد مالك عام 1996م  بعد ثلاث سنوات اكتشف فيها أنه في المكان الخطأ

الشيخ إبراهيم سعيد مالك

فخرج مكوناً فصيلًا جديدًا  سمي المجلس الإسلامي للدعوة والإصلاح في أرتريا وتواصل أبو ياسين  إيجابياً مع أمير الجهاد أبي أحمد عرفة أحمد محمد  ويذكر مساوئ أهل الخطوة وسلبياتهم  ودخل في أدوار إيجابية  عبرت عن حسن موقفه اللاحق مع إخوان أمسه ويومه  وقد ظهر في مناسبات عديدة جامعة يقف فيها مواقف مشرفة مستبشعا أخطاء الماضي وكان الشيخ أبو أسماء محمد صالح إدريس أحمد خير ضمن شخصيات المجلس الكبيرة ذات الكسب الدعوي والعلمي والجماهيري ،  

ثم خرج عن أبي سهيلٍ رئيسِ الخطوة الشيخ أبو البراء  د.حسن محمد سلمان عام 2006م  بعد أن نفد صبره خلال 13 عاما قضاها صابراً في تجربة مرة  مع أبي سهيل  خرج مكونًا فصيلاً جديداً سمي المؤتمر الإسلامي الأرتري وتواصل مع الطرفين إيجابيا معبرًا عن استيائه من أهل الخطوة  متهماً إياهم ويذكر من سلبياتهم  وكان 

د.حسن محمد سلمان

من أكثر الدعاة وأصدقهم لهجة ووضوحًا في تعرية موقف الخطوة التصحيحية وطرح آراء بديلة ومشروعات عمل واسعة الأفق ومضت حوارات بين الطرفين المنشقين  عن أبي سهيل أثمرت بعد استمرار الحوار  والتنسيق المتدرج لمدة تزيد عن أربع سنوات إلى وحدة اندماجية في مؤتمر جامع بتاريخ 27 مايو 2011م  خلص المؤتمر إلى طي ملف الماضي بضم كل إمكانيات التنظيمين البشرية والمادية إلى كيان واحد تحت اسم واحد  ” المؤتمر الإسلامي الأرتري .

وقد تجاوز التنظيمان عقدة الاختلاف والانشقاق بعد التقييم المخلص العاقل الناضج إلى عافية الوحدة بينهما وطي صفحة الماضي بكل ما فيه من المرارات أو  الإضاءات  وكم تنشرح القلوب إذا تصالحت مع نفسها ومع الآخرين  بكل صدق وعقل وتعاملت مع مواطن الخلاف أو الأخطاء بالشجاعة التي تسوق إلى الصراحة والشفافية للانطلاق منها إلى أفق  رحيب معافى  .وكم  هو مريح للنفس أن تنظر إلى سيرتها بتواضع ونقد عاقل وكان من شأن الصحابة القدوة رضي الله عنهم أن اختلاف مواقفهم في  بعض مشاهد المسيرة لم يحل بينهم وبين الاجتماع مرة أخرى والعمل سويا لتنزيل مقاصد الدين في الحياة ولهذا يتعاظم عندي موقف التنظيمين يوما بعد يوم فهذه عشر سنوات تمضي منذ الوحدة بين الطرفين والأجواء مفعمة بالأمل كما أنها مهيئة لتكون قدوة لتحقيق وحدة الإسلاميين مرة أخرى فمن ذاق الحلاوة جدير ليكون أكثر إلحاحًا لطلبها مرة أخرى ومن صدق في تقييم نفسه جدير ليكون مأمون الجانب ، سليم الطوية والعواقب .

اختلاف بأدب  :

والانشقاق كان فتنة أليمة باعدت المسافة بين جماعات المسلمين ، وتنافرت المواقف وقد وصل الفجور في الخلاف ببعضها إلى درجة تبادل الإيذاء  وقد ظهرت أصوات متشددة عندما تزور مناسبة اجتماعية تقول : أنا لا أشرب بـــ ” كوز”  وإنما أشرب بــ ” الكورة ”  من شدة حقده على  طرف من إخوانه المسلمين  وهو كان منهم في تاريخه وهو جزء منهم في مستقبله المعافى ، بضعة منهم .فالمؤمن للؤمن كالبيان يشد بعضه بعضاً.

وأكد بعض المشايخ الذين تواصلت معهم أن القبيلة كانت حاضرة عند الانشقاقات فكان الشيخ محمد صالح مقدرًا لموقفها كما فعل الصحابي الجليل سعد بن عبادة زعيم الأنصار عندما طمع الأنصار في نصيب من غنائم حنين معترضين على موقف وحظوة مادية لا علاقة له  بالإيمان والإسلام فطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم  خاطرهم ، يروى الموقف هذا حديث صحيح جاء فيه : ( وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم : لقي – والله – رسول الله قومَه ، فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال : يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم . قال : فيم . فيما كان من قَسَمِكَ ، هذه الغنائم في قومك ، وفي سائر العرب ، ولم يكن فيهم من ذلك شيء . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : ما أنا إلا امرؤ من قومي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجمع لي قومك في هذه الحظيرة  فإذا اجتمعوا فأعلمني . ) – صحح الحديث الشيخ ألباني رحمه الله . الدرر السنية ، dorar.net – وفي اللقاء الجامع عولجت المشكلة الكبيرة وحسم الموقف الخلاف ولم يتواصل ولم يتعاظم . والتفسير الخاطئ من طرف مجتهد وإن كان صحابياً قد يذهب إلى موقف خاطئ،  وقد يتحول إلى  التوبة إن تمت معالجته بالحكمة الرزينة والصبر الجميل لكن في خلاف الحركة  كان الميزان مختلاً  ولم تكن هذه الاختلافات إلا اختلافات مصالح ووجهات نظر سياسية وحزبية وإن استعانت بنصوص شرعية تنصر بها مواقفها الباطلة  ولهذا ظل تباين المواقف وكانت العافية في التواصل الطيب بين الطرفين وحمد الناس للشيخ محمد صالح أدبه الجم في التعامل مع من اختلف معهم في الوجهة السياسية فهو قد التزم الصمت الجميل والتعاون البناء في حين كان كثير من الدعاة يركبون الأهواء.

الشيخ محمد صالح معلمًا :

من سيرة  الشيخ محمد صالح  العطرة أنه كان عفيف اللسان  تجاه إخوانه ،  كثير التواصل  معهم ، وأنه كان استاذًا في معهد النهضة الإسلامي بخشم القربة وقد فتح له المشايخ صدورهم لمخاطبة وتربية طلابهم وأبنائهم ثقة بما عنده من خير علمًا وخلقًا

سألت عن الشيخ محمد صالح أحد طلابه – وهو الآن معلم في إحدى المدارس –  فقال : كان الأستاذ محمد صالح  يشرف على  مركز قرآني  اسمه مركز أبو بكر الصديق  ( وهو  خلوة كانت تؤدي رسالتها في المعسكر القديم   بخشم القربة . وفيها نشاط للطلاب والطالبات والنساء  . وأكد الأستاذ الذي كان قد درس على يد الشيخ محمد صالح أن الشيخ الفقيد رحمه الله   كان يدرسهم في الحلقات كتاب ( مذكرات الدعوة والداعية)   وكان يقدم دروسًا مختلفة في مركز أبي بن كعب لتحفيظ القرآن الكريم وفي المساجد  يتحلق حوله طلاب العلم الشرعي ، وكان خطيبًا في مساجد مدينة خشم القربة العامرة.

صدق موقف :

وذكر لي أحد المشايخ الدعاة الذين رافقوه في جولة دعوية وتنظيمية بعد انشقاق المجلس عن جماعة  أبي سهيل قال : خاطب الشيخ محمد صالح المصلين في المسجد الجامع بمنطقة 26 قائلا : الإيمان يزيد وينقص وعندما انشققنا من حركة الجهاد ومن إمارة الشيخ عرفة كان إيماننا قد نقص لأن المعاصي تذهب ببعض الإيمان كما دلت عليه نصوص شرعية واستدل لحديثه بنص نبوي:  ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن  ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) –  .رواه البخاري ،  الدرر السنة .  dorar.net-  وقد عاد إلى الحركة من جديد بعد خطبته أكثر من 25 شخصًا كانوا في موقف مرتاب. رحمك الله يا فارس المنابر والمحافل 

تعليقات

تعليقات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى